(1)
تتكون سلطة الحكم العسكري الراهن في مصر من نواة صلبة وأدوات تستعملها لتدويم تسلطها على البلاد والعباد. تتكون النواة الصلبة من تحالف المؤسسة العسكرية وأصحاب الأموال الكبار الذي تسنده الدول العربية الرجعية، خاصة السعودية وإمارات الخليج النفطية.
أما الأدوات التي يستعملها الحكم العسكري للبطش بالمعارضة وتقييد الحريات والحقوق الأساسية لجميع المواطنين فتضم الجيش والشرطة، ذراعا البطش بالعنف السافر، والقضاء الذلول الباطش بالقوانين الجائرة، الذين يغدق عليهم النظام بلا حساب ماليا (قارني مرتب الطبيب حديث التخرج الذي يقل عن نصف مرتب أمين الشرطة الحاصل على الإعدادية، مثلا) بينما يقتر على غيرهم من المواطنين أشد التقتير ويحيل حياتهم جحيما بالغلاء المُدار من الحكومة الفاشلة والفاسدة.
كما يُعلى الحكم، من المكانة الاجتماعية لهذه الفئات التلاث باعتبارها من أهل السلطة بالإمتيازات الأخرى وبالإيحاء بأنهم على مرتبة أعلى من باقي المواطنين، هم سادة والباقي مسودين. على حين أنه في المجتمعات السوية القائمة على المواطنة التي تساوي بين المواطنين جميعا، يعلم أعضاء هذه الفئات أنهم مُستأجرون كخدم مؤقتين للشعب وأفراده ويعلون من شأن أي مواطن بإعتباره رئيسهم الأعلى وممول مرتبهم ومزاياهم من الضرائب التي يتحمل عبؤها عامة الشعب لكونه فرد من الشعب، صاحب السيادة ومصدرها الوحيد.
لكن ذهنية السيد والمسود المؤسسة للظلم الاجتماعي للغالبية مرض معدٍ. وسرعان ماتنتشر العدوى داخل معسكر التحالف الحاكم وأدواته.
(2)
ترددت في الأسابيع الأخيرة اتنقادات من معسكر أصحاب الأموال للمؤسسة العسكرية، ولو على ألسنة قواديهم في وسائل الإعلام التي يمتلكون، ولم تخل من تهديدات للحكام العسكريين بإعتبار أن الفصيل الأول هو من أتى بالعسكريين للحكم وأنهم لن يقبلوا أن تضار إمتيازاتهم في إستغلال الشعب الطيب.
وسوف تزداد احتمالات الفرقة بين الفئتين كلما تبين إفلاس الحكم العسكري، وأنه لا يملك إلا مشروعات تنمية وهمية يتأكد خواؤها كل يوم بشكل سافر ومفضوح، ويسعى الحكم العسكري إلى التعمية على أفعال النصب على الشعب هذه بإثارة ستر الدخان الكثيفة التي تصرف أنظار الناس مثل الخلافات الدينية والنزاع حول التحجب. المشكلة أن خواء مشروعات التنمية بالإضافة إلى سياسات الإففقار الشرسة التي يتبناها الحكم العسكري الراهن تمص دماء الشعب أولا بأول لمصلحة المؤسسة العسكرية ولا تترك لأصحاب الأموال إلا شعبا مفقرا، وسوقا محلية مُقفرة، بحيث لا تترك لأصحاب الأموال إمكان ربح أكبر، وسيصبح هذا مثار توتر مرشح للتصاعد بين مكوني التحالف الحاكم يؤججه الكساد المخيم على الاقتصاد المحلي نتيجة لتخصيص كل المشروعات الجديدة بالأمر المباشر لشركات القوات المسلحة، وسيتحول على الأغلب إلى نزاع حول من له السيادة والقيادة، والمكسب الأعلى، من الطرفين.
وحتى إن تم احتواء النزاع فستتسبب في تصدع التحالف المؤسس للحكم العسكري.
(3)
في معسكر الأدوات، يثور أيضا نزاع السيادة والقيادة بين الأدوات المتنافسة على أعلى مكانة اجتماعية وأكبر مغانم من السلطة. وقد برزت علامات توتر ونزاع وصل إلى تبادل الهتاف والأعمال العدائية وحتى المعارك المسلحة بين الجيش والشرطة، وبين القضاء، خاصة فئة وكلاء النيابة الأقرب للتعامل مع رجال الشرطة، والشرطة.
وبالمناسبة يتردد أن السبب الحقيقي لإقالة وزير الداخلية العتيد في الإجرام، لمصلحة الإخوان والعسكر كليهما، محمد إبراهيم أخيرا كان تبجحه بأنه مركز قوة عصيّ على الإقالة لأن وزارة الداخلية تحت رئاسته هي ركيزة نظام الحكم. وربما لم يكن مخطئا، وإن تجاوز، ولكن الحكم التسلطي يقوم على البطش ولو بالأعوان إن تبجحوا لتعزيز سطوة المتسلط الأكبرو معسكره.
ولهذا تكررت خلال السنوات الماضية الاشتباكات بين عناصر من الجيش والشرطة. وشهدت الوقائع المتتالية تحريك مجموعات قتالية واحتجاز أفراد من كلا الجانبين وإطلاق متبادل للنيران أو الغاز المسيل للدموع في بعض الحالات.
في هذا السياق يتعين الانتباه لمغزى ما حدث مؤخرا في محافظة المنوفية والذي أعاد طرح الأسئلة عن علاقة التنافس المتوترة بين الشرطة والجيش. فقد تعرض قسم شرطة “شبين الكوم” للحصارً من قوات الشرطة العسكرية بعدما اصطحب أفراد كمين أمني طيارًا حربيًا إلى القسم بعد رفضه إظهار رخصة القيادة الخاصة به أثناء مروره بالكمين، وهو ما تطور من مشادة كلامية إلى تشابك بالإيدي، انتهى باصطحاب الطيار الحربي إلى القسم وتحرير محضر له، فأبلغ الضابط وحدته العسكرية وتوجهت على إثر ذلك قوات من الشرطة العسكرية ومدرعات من الجيش إلى القسم، وحاولت إلقاء القبض على أمين الشرطة الذي ألقى القبض على الطيار، واقتياده إلى النيابة العسكرية، غير أن أمناء الشرطة رفضوا تسليم زميلهم وأغلقوا القسم. واحتاج الأمر إلى تدخل قائد المنطقة المركزية ومحافظ المنوفية ومستشاره العسكري ومدير الأمن لتجازالأزمة. المغزى الأخطر هو أن الأداتين المسلحتين، القوات المسلحة وجهاز الشرطة- المفترض دستوريا أنه هيئة مدنية ولكن جرت عسكرته لخدمة الحكم التسلطي في قهر المواطنين- يتصرفان كتكوينات قبلية متعصب، في مواجهة الشعب أولا، وفي مواجهة بعضهما البعض. وقل على الدولة المدنية الحديثة تحت الحكم التسلطي، السلام.
(4)
ولا يقل أهمية عما سبق إشتداد الضغوط على الحكم العسكري القائم من خارج التحالف الحاكم وأدواته. فبعض من عتاة مؤيدي الحكم العسكري ومجاذيب رأسه الحالي، المغيبين بالإعلام والإعلان الداعرين، في الداخل، بدأوا يراجعون أنفسهم بعد تكشف سوءات ذلك الحكم التي لا تخفي على عاقل. وكثير ممن خدعوا بالوعود الزائفة للحكم المُفلس، إلا بالنسبة لشريحة القمة من المؤسسة العسكرية واصحاب الأموال، التي تغتني فحشا. فتلك الفقاعات التي صارت تستعصي على الحصر، وتزداد عددا وإمعانا في الخداع يوميا، تجعل حتى المغيبون يتساءلون إلى متى يمكن الإستمرار في تأييد مثل ذلك الحكم التسلطي المخادع، الفاسد والفاشل.
كذلك قد صنع الحكم العسكري بنفسه مبررات تفسخ نظامه عبر توايد الضغوط عليه من الخارج من خلال فشله الذريع في مقاومة الإرهاب، سبب وجوده الأصلي، وزرع بذور الفرقة في قاعدته الأساسية من قيادات المؤسسة العسكرية ذاتها بالتحزب والقبلية في إختيار القيادات العسكرية، وعن طريق بطشه الهمجي بعشرات الألوف من أشياع جماعة الإخوان وأنصارها وبمئات من المعارضين الآخرين من حميع أطياف السياسة في مصر، بلا منطق ولا عقل، ما يزيد من عداد معارضيه ومتمنيّ زواله.
لقد أدى بطش الحكم العسكري بأداة القانون، وخنوع بعض القضاة الطامعين في متاع الدنيا الزائل إلى ما يشبه إعلان مقتل القضاء المنصف والمستقل في مصر، لحين إشعار آخر. ولطالما إنتقدت علنا السلوك السياسي لجماعة الإخوان خصوصا أثناء توليهم الحكم وما زلت، لكن مقابلة الأحكام الصادرة على قيادات الإخوان والأحكام المفرطة في الظلم والقسوة على النشطاء الثوريين من الشبيبة، بمهرجان البراءة الشاملة والتامة الذي حظي به جميع مجرمي المرحلة المنصرمة من الحكم التسلطي القائم والسابقة على الموجة الأولى من الثورة الشعبية العظيمة في يناير 2011، يدل على النفاق الأصيل لمرحلة الحكم التسلطي الراهنة، وعلى إنهيار القضاء في مصر وفقدانه لمبرر وجوده ، ما دام يكيل بأكثر من مكيال لخدمة السلطة الاستبدادية الفاسدة. وسيتسبب هذا الإنهيار بلا ريب في تصاعد النقد المبرر لسوءات الحكم العسكري في داخل البلاد ومن خارجها.
(5)
في النهاية، نجد السند الخارجي والمُمول لنظام الحكم العسكري يراجع حساباته. فالرجعية العربية أيقنت أن من يُشترى للإنقلاب على الشرعية خدمة لأجنبي لا يؤمن جانبه، وقد ساهمت التسريبات التي ذاعت عن تورط قادة المؤسسة العسكرية في الإنقلاب على الحكم السابق لقاء أموال ضخمة دفعت مقدما ولم تجد طريقها لإصلاح حال الوطن والمواطن، زيادة على إحتقار اإلإنقلابيين لمموليهم في إستعار غضب السعودية وااخليج من قيادات المؤسسة العسكرية، وفي إرساء ذهنية غياب ثقة ممولي الحكم العسكري في تلك القيادات ومعاملتها كالمرتزقة المأمورين تحت إمرة قيادات سعودية وخليجية حتى قاد حملة عاصف الحزم التي إنضم لها الحكم العسكري في مصر، أمير سعودي لا يتعدى الثلاثين عاما من العمر. وتقديري أن مغزى التغييرات الأخيرة في حكام السعودية ستفضي إلى تقليل دعم المملكة لنظام للحكم العسكري في مصر.
(6)
مجمل الصورة إذن أن الساعة تدق مؤذنة بتباشير تفسخ التحالف المؤسس لنظام الحكم العسكري الراهن وأدواته وداعميه الخارجيين، تحت ضغوط التوتر والتنافر من الداخل وضغوط تنامي حركات الاحتجاج الشعبي وطليعتها النضال العمالي التي يجهد الحكم التسلطي لإجهاضها من دون طائل، على الرغم من الظلم الفاجر، وإشتداد المعارضة الوطنية في الداخل، وتداعي دعم المُموليِن من الخارج.
وليس بمسغرب في ضوء تكاثر علامات فشل الحكم العسكري الراهن أن شهدنا مؤخرا تصاعد نبرة نقد الحكم الراهن من عهار الإعلام المدار، عادة بالتركيز على سوءات الحكومة وليس الرئيس أو مؤسسة الحكم التسلطي، وإن إخترق بعضهم أخيرا حاجز عصمة الرئبس الحاكم من النقد.
هذه الظاهرة مؤشر لا يجب التغافل عنه على صراع قُوى داخل التحالف المؤسس للحكم العسكري لا يستبعد بعض أطرافه التخلص من واجهته الحالية. وظني أن المؤسسة العسكرية سترغب في استبداله بواجهة أخرى من أصل عسكري أيضا بدلا منه، بالضبط كما فعلوا مع الطاغية المخلوع في بدايات فبراير 2011.
وليس هذا بتطور مواتِ لنيل غايات الثورة الشعبية العظيمة. فلا صلاح ولا نهضة في مصر إلا بالقضاء على الحكم العسكري قضاء مبرما والعمل على إقامة الحكم الديمقراطي السليم في دولة مدنية، لا عسكرية ولا دينية.
هذا هو سبيل نيل غايات الثورة الشعبية العظيمة في الحرية والعدل والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية للجميع على أرض مصر. ومن ثم يتعين أن يكون الهدف المرحلي للنضال الوطني الديمقراطي حاليا هو التخلص من الحكم العسكري، وليس مجرد إحلال وجه عسكري محل آخر ولو لفترة يروجون أنها إنتقالية ويعملون على أن تدوم.
للتوضيح القاطع، ليس من إدعاء بأن هذه العمليات المجتمعية والتاريخية ستؤتي أكلها بسقوط تحالف الحكم العسكري الراهن فورا. ولكن هذه العمليات تمضي بلا هوادة، وتطحن أسس الاستبداد والفساد القائمة على القهر والإفقار وتقسيم المجتمع إلى سادة وعبيد طحنا دقيقا. ولسوف يُسقِط الأحرار الذين يعاملهم الحكم العسكري معاملة العبيد هؤلاء السادة المزعومين المأفونين في يوم ليس ببعيد. وسيكون جزاؤهم على ما قدمت أياديهم مزلزلا.