عندما بدأ الحديث عن أهمية تشكيل ما يسمى بـ”طريق ثالث” أو “بديل ثالث” بين القوى والجماعات السياسية والثورية التي شاركت في ثورة يناير أو تشكلت على مبادئها بعدها، كان جلياً من اسمه أنه يسعى إلى شق مسار ثالث تدفع فيه الثورة المصرية إلى أهدافها بعيدا عن طريقين آخرين.
الطريق الأول هو العودة لدولة مبارك ونظامه بكل ما يعنيه ذلك من عودة لنظام الاستبداد المحتكر للمجال السياسي، والمنطلق في تفعيل سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، بتغوِّل شديد للفساد وبالضرب بالعصا الأمنية الغليظة، والمعتمد على استمراره بوجود المؤسسة العسكرية في القلب من هيكله. هذا الطريق الأول هو تحديدا الذي قامت ضده ثورة يناير التي انتفضت من أجل التخلص منه ملايين الجماهير على مدى الـ18 يوما وما بعدها بشهور في الشوارع والميادين والمصانع والشركات والجامعات، وواجهت فيه ببسالة وحشية داخلية العادلي وجرائم مجلس مبارك العسكري، من أجل انتزاع مكاسب ديمقراطية واقتصادية واجتماعية.
أما بالنسبة للطريق الثاني، فعندما نجحت الثورة في كسب الحق في انتخابات هي الأنزه والأكثر بالمشاركة في تاريخ مصر الحديث، جاءت بأكثرية من الإخوان، وبأغلبية من الإخوان والسلفيين إلى البرلمان، وبمحمد مرسي إلى رئاسة الجمهورية. حينها تَكشّف لقطاع واسع من الجماهير أن الإخوان لا يمثلون البديل الذي يبتغونه لتحقيق أهداف الثورة بعدما تصالحوا مع أجهزة قمع نظام مبارك ورجال أعماله، وحذوا حذوه في سياساتهم الاقتصادية المعادية للفقراء، وأصروا على انفرادهم بمساحة السلطة المكتسبة بقوة الثورة، ومرروا دستور يميني عسكري رجعي، وقمعوا بشكل همجي التظاهرات بالاتحادية وبورسعيد وغيرها، بالإضافة إلى خطابهم الطائفي ضد المسيحيين والشيعة والبهائيين، والرجعي ضد النساء والكثير من الحريات العامة والخاصة.
تشكلت إذن أثناء رئاسة مرسي ملامح الطريق الثالث الرافض للطريقين الأول والثاني والداعي للمدنية ومزيد من الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية، أي استكمال مسيرة ثورة يناير لتحقيق أهدافها وتعميق مكاسبها والتي بدا أن الإخوان يقفون عائقا حيال ذلك المراد.
كان من الطبيعي أن يرفض القابضون على أهداف ثورة يناير سياسات الإخوان وأداءهم في السلطة وأن يشاركوا في التظاهرات والفعاليات المناهضة للإعلان الدستوري والدستور وقرض صندوق النقد الدولي وضد الطائقية ومع المساواة والحريات، وذلك لدفع الثورة لمكاسب أكثر جذرية لصالح الجماهير بمختلف أطيافها. كان من الطبيعي أيضا أن لا ينضم أنصار هذا الطريق الثالث لجبهة الإنقاذ والتي تشكلت لإسقاط الإخوان من السلطة ولو بالتحالف مع الفلول وأقطاب الثورة المضادة.
كانت جبهة الإنقاذ اسما على مسمى بالفعل، لكن لا لإنقاذ الثورة بل لإنقاذ الثورة المضادة، فقد شكّلت مظلة آمنة -بمشاركة أحزاب وقوى من ثورة يناير- لتصدّر الفلول مشهد معارضة الإخوان، ولتفتح المجال للتصالح مع أقطاب نظام مبارك، بل والتحالف مع أجهزته القمعية والقضائية ورجال أعماله تحت مظلة “لا صوت يعلو فوق صوت معركة إسقاط الإخوان”. وقد قاد هذا المعسكر فعليا المعارضة ضد الإخوان مستخدما كل وسائل الدولة حتى الوصول إلى تمرد و30 يونيو والانقلاب العسكري؛ أي العودة للطريق الأول: طريق الثورة المضادة.
لقد نجحت مظاهرات 30 يونيو في تحقيق هدفها بالفعل بإزاحة الإخوان من دائرة السلطة، لا لصالح ثورة يناير وتجذيرها بل لصالح دولة مبارك والثورة المضادة التي رجعت بأداء انتقامي وحشي. ولم يكن في مقدور أنصار الطريق الثالث فعل شيء إزاء ذلك المآل لصغر حجمهم الشديد بالمقارنة بموجة الثورة المضادة الصاخبة وتجييشها الرهيب للجماهير على خطاب أن المنقذ من الإخوان الوحيد هو الجيش. فواجهنا ما واجهنا من تخوين وإرهاب واتهامات بشق الصف، عندما شاركنا في 30 يونيو تحت شعارات “يسقط كل من خان.. عسكر فلول إخوان”.
في حين أيّدت تماما قوى سياسية مختلفة من القوميين والليبراليين واليساريين الانقلاب العسكري وكل ما اقترفه من مجازر وحشية وإجراءات قمعية وخارطة طريق الثورة المضادة، شكل أنصار البديل الثالث جبهة ثوار والتي ضمت قوى ثورة يناير الرافضة للانقلاب العسكري والمعارضة لعودة الإخوان. وقتها كان من المُلح تكوين جبهة من الثوريين الرافضين لتوحش الثورة المضادة ولاستعادة دولة مبارك لجبروتها بثوب أكثر دموية، وفي ذات الوقت رافضين لمشروع الإخوان المسلمين وحكمهم وسنة محمد مرسي. ومن هنا وُلدت الجبهة لتجميع من هم على هذا الطريق الضيق حينها بين هيستيريا الديكتاتورية العسكرية المتصاعدة والتي دعمتها أحزاب وقوى سياسية ليبرالية ويسارية، وبين شطط وطائفية مجموعات “دعم شرعية الإخوان”. على الرغم من ضآلة حجم الجبهة واقتصار القوى المشاركة بها على الاشتراكيين الثوريين و6 أبريل وبعض أعضاء مصر القوية والتيار المصري وبضع عشرات من المستقلين، إلا أن دور الجبهة وتأثيرها كانا أكبر من حجمها حيث حفرت هذا الطريق الثالث بدأب ونضالية، واستطاعت الإبقاء على صوت الثورة مسموعاً ولو في نطاق ضيق، ونظمت فعاليات متعددة بالشوارع والجامعات في تحدٍّ واضح لسلطة الثورة المضادة مما حدا بالأخيرة للهجوم على رموز الجبهة واعتقال العشرات منهم حتى يومنا هذا.
لكن بعد مرور سنتين على تدشينها وما مر من ترسيخ أركان الثورة المضادة، يجب على جبهة ثوار وأنصار الطريق الثالث مراجعة التجربة لتطويرها والقفز بها خطوات بعد ما أصابها من شلل نتيجة فقر ما تقدمه من خطاب سياسي ثوري حقيقي ينتصر لأهداف ثورة يناير الديمقراطية والاجتماعية.
بديهي أن طبيعة الجبهات من حيث مكوناتها أو من حيث البرنامج التي تطرحه، ترتبط ارتباطا مباشرا بطبيعة اللحظة السياسية وموقع الثورة والحركة النضالية من جانب، وموقع الثورة المضادة من جانب آخر. ومن هنا وجب إعادة النظر في طبيعة تكوين هذا الطريق الثالث وبرنامجه السياسي في ضوء ما مر خلال السنتين من متغيرات مكّنت الثورة المضادة من الانتصار على الثورة ومكتساباتها الديمقراطية على جسر شيطنة الإخوان والتنكيل بهم. فالثورة المضادة الآن في الحكم وتسيطر على كافة مفاصل الدولة وتقود نظام ديكتاتوري عسكري يعصف بالديمقراطية ويتوحش أمنيا ضد معارضيه بالقتل والتعذيب والسجن وبدل الإعدام الحمراء، وأول من يدفع ثمن ويلاته هم الإخوان المسلمين ودوائر حولهم رافضة للانقلاب.
فمن المنطقي إذن أن من يأخذ على عاتقه النضال من أجل الديمقراطية وضد توحش الدولة الأمنية أن يتضامن بأشكال متعددة ضد كل الإجراءات الوحشية ضد كل معارضي النظام والعمل على كسر حالة الشيطنة المقصودة ضد الإخوان المسلمين والدوائر الشعبية المحيطة بهم والمتعاطفة معهم بعد ما تعرضوا له من مجازر متتالية. كسر حالة الاستقطاب المدني الإسلامي هو كسر لتكتيك من التكتيكات الأساسية للثورة المضادة، بل أن تحويل دفة الصراع على مستوى مختلف يجمع فئات مختلفة على مشروع ديمقراطي جذري واجتماعي عادل ضد الديكتاتورية العسكرية هو من المهام الملحة لأنصار الطريق الثالث.
هذا التحول في التكتيك يستلزم بالطبع مناقشات واسعة بين أنصار تيار الثورة لأخذ خطوات محسوبة فيه ولتكوين أوسع جبهة ديمقراطية ناجحة، محتفظة في ذات الوقت بخطاب لا يتذيل طائفية ورجعية بعض قوى الإسلام السياسي. تطوير تكتيكات الطريق الثالث وإبداع قفزات في تكوينه تتطلب شجاعة وجرأة من أنصاره لا تنقصهم بكل تأكيد.