يتعامل البعض، بخفة واستسهال، مع ما جرى ويجري لأفراد جماعة الإخوان المسلمين من تنكيل غير مسبوق من قبل السلطة والنظام الحاكم في مصر، غير مكترثين للآثار النفسية والاجتماعية للمأساة الكبرى التي يعيشها هؤلاء جراء هذا التنكيل، سواءً في شتات الخارج أو داخل السجون والمعتقلات من تعذيب، أو في حياتهم الشخصية، بعدما فقدت مئات الأسر أحد أبنائها أو عائلها أو تلك الأسر الصارخة في صمت لما حل بإحدى بناتها أو نسائها من انتهاك جسدي بدءًا من الاعتداء بالضرب والتحرش، انتهاءً بالاغتصاب.
استسهال يكشف عن نمط تفكير يجسد “المكايدة السياسية” أو تصفية الحسابات أو الاستقواء على الطرف المضمون عواقبه، كمنطلق للتحليل أو قراءة المشهد عند كثيرين ممن لا يستطيعون أن يروا في كل ما يجري سوى فكرة “الصراع” دون اعتبارات لجوانب أخرى.
ولعل ما كتبه الباحث محمد نعيم، في شرحه لعملية احتواء الاتحاد السوفيتي عقب سقوطه من قبل خصومه قبل مناصريه، مثالًا يمكن من خلاله فهم خطورة التعامل باستسهال مع الكيانات الكبرى حين تمر بأزمات عاصفة قد تؤدي إلى تفككها أو إعادة تشكيلها أو طرحها في ثوب جديد.
وبتصرف، فإن ما أشار إليه “نعيم” هو أن “انهيار الإمبراطوريات لم يكن بالأمر البسيط؛ فمثلما تمثل في وجودها تحديًا لخصومها، فإن انهيارها السريع هو أيضًا تحدٍ لأعدائها”، لافتًا إلى “بذل الولايات المتحدة الأميركية آنذاك جهدًا جبارًا من أجل إتمام عملية تفكيك الاتحاد السوفيتي من دون كوارث، موضحًا أن الحفاظ على الجيش الروسي موحدًا مسألة أمن كوني، وكذلك الحال مع عملية إدماج روسيا في السوق، نظرًا لما كان يمكله هذا الكيان من إمكانات ضخمة”.
من هذا المنطلق، وهو قياس، مع الفارق بطبيعة الحال، فإن عدم احتواء كيان بضخامة جماعة الإخوان المسلمين على مستوى المجتمع باعتبارها الفصيل السياسي/الاجتماعي الوحيد شبه المتماسك حتى الآن، وإعادة دمجه في العملية السياسية والاجتماعية، بحجم انتشاره في مصر كلها وتمثيله أطيافًا طبقية وعمرية وجنسية متنوعة، تضم طاقات شبابية كبيرة وميراثًا تاريخيًا في العمل العام والأهلي ومئات الأدبيات التي تعبر عنه، وتمثل معينًا فكريًا مهمًا لأتباعه، أمر قد يكون له داخل مصر عواقب قد توازي في قوتها العواقب التي كانت يمكن أن تنتج عن عدم احتواء العالم للاتحاد السوفيتي.
وربما لا يخفى على الكثيرين، ما ذهب إليه كثير من شباب الإخوان حينما كفروا بأمر السلمية المطلقة، وتنوعت ردود فعلهم ما بين مستخدم لعنف لا يفضي إلى قتل، وآخرون كونوا مجموعات لعمليات نوعية تخريبية اقتداءً بنموذج جنوب إفريقيا برأيهم، وآخرون ذهبوا للانضمام لحركات مسلحة في سيناء وسوريا، وهي أمور لم تحدث فجأة؛ بل كانت لها مراحل متدرجة تأسيسًا على ما جرى لهم ولذويهم في ظل حالة شماتة واضحة أو متخفية، بدءًا من 3 يوليو 2013 وحتى فترة قريبة، وذلك من قبل أنصار النظام الحالي وأيضًا من قبل بعض معارضي الإخوان ممن يحسبون على الثورة أو التيارات الشبابية، شماتة تلحظها عند كل موقف ترغب هذه الأطراف في تبرئة نفسها تمامًا من أي مسؤولية عن وجود النظام العسكري الحالي.
وإذا كان ثمة مثال واضح لعدم فهم خطورة أمر الاحتواء حتى الآن، هو حالة السخرية المتواصلة من أي تحرك سياسي تقدم الجماعة عليه، فتارة تجد من يسخر إذا أعتقد بوجود بوادر مصالحة مع النظام، ملوحًا أن هذا دأب الإخوان/ في حين أن هؤلاء الأشخاص أنفسهم يسخرون من استمرار الإخوان في حراكهم الحالي، ومرة أخرى إذا جرى خلاف داخلي ينبئ عن تغير الجماعة، وكأن الإخوان وأفرادهم هم فقط مادة للتندر وهدف للنقد.
وما يؤكد ذلك، تناول أي عمل احتجاجي أو تظاهرات يقوم بها الإخوان، باعتبار أنها تهدف فقط إلى عودة مرسي وكأن هذا هو المحرك لها، وهو تبسيط مخل لفهم ما يجري داخل الإخوان، وتستطيح لقراءة الآثار النفسية والاجتماعية لمصائب يزيد عمرها على العامين.
فمنذ إبريل/مايو 2014 مرورًا بأغسطس من العام نفسه، ومع كل التصعيد التالي عليه، كانت المظاهرات جوهرها الأساسي الانتقام أو القصاص للقتلى أو الدفاع عن المسجونين، وعودة مرسي هي الأمر الهامشي في مخيال أغلب المتظاهرين، وذلك بعد حالة الإحباط واليأس التي بدأت تدب في نفوس الكثيرين بأنه لا سبيل لأي أفق إنساني أو سياسي يحل من أزمات عشرات المحكوم عليهم بأحكام ما بين العشر سنوات والمؤبد والإعدام، جعلتهم فاقدين الأمل لأي تحسن؛ الأمر الذي كون لدى بعضهم الرغبة في الانتقام أو عند الحد الأدنى اعتزال المجتمع وكراهيته.
إن احتواء الإخوان يبدأ من عدم السخرية من مطالبهم أو حراكهم، وتفهم دوافعهم في تمترسهم بالجماعة بعد أن بات الكل يتلقفهم إما بالسباب أو السخرية أو الرغبة في السعي لإذلالهم وإخضاعهم أو التجني عليهم بأنهم فقط من يتحمولون مسؤولية تمكن القوى الأمنية والعسكرية من الحكم.
الاحتواء يبدأ من الإيمان التام بحقهم في طرح أفكارهم وتصوراتهم في المجال العام الذي هم جزء منه، ثم يكون للآخرين حق الاختلاف والاشتباك معها أو رفضها دون الانتقاص من كرامتهم.
ليس من العقل أن تسب وتزدري من يخالفك في الرأي والفكر أو الرؤية، وهو في ظل أزمة إنسانية عاصفة ثم تطالبه بأن يكون ذا رشد وإتزان؛ لأن هذا لا يعني سوى أنك تشارك السلطة في الرغبة في التركيع لخصومك أو مخالفيك.
إن غياب الأمل التام بشقيه اجتماعيًا وسياسيًا، ولو بشكل رمزي، قد يكون له ردود فعل غير متوقعة؛ ليس لأسباب سياسية فقط، ولكن كانعكاس سلوكي للآثار النفسية والاجتماعية لحجم التنكيل، ولا سبيل إلى تجنب ذلك إلا برؤية ما يموج تحت السطح من غضب، واحتواء الناس وتفهمهم وليس الاستعلاء عليهم، ولا يعني ذلك كله مرة أخرى أن توافقه أو تؤيده فيما يعتقد وتخالفه أنت فيه، لكن يعني ببساطة أن تتفهم وتلتمس العذر وترى ما هو غير الصراع السياسي في ثنايا المشهد، حتى يمكنك أن تفكك حالة الغضب وتساعد في جبر خواطر المكلومين، فتكون مصدر ثقة لديهم وتستطيع المساهمة في تغييرهم إذا كان حقا لدينا نوايا صادقة في مجتمع أفضل لا يقصي أحدًا.