يصرخ عمرو حمزاوي “كل هذا الظلم”، لكنه، في الوقت نفسه، يدعو إلى التصالح مع الظلم والقبح والقمع والاستبداد والإجرام.
مبادرة، أو أطروحة، أو دعوة، أو روشتة عمرو حمزاوي، التي أطلقها عبر صحيفة واشنطن بوست بالتشارك مع مايكل ماكفول، مستشار الرئيس الأميركي، باراك أوباما، لا تعدو كونها إقرارًا بأن “الجريمة تفيد”، وأن من المستبدين من يستطيع أن يقتل ويعذب ويدمر مجتمعًا إنسانيًا، ثم يخرج من دون محاسبة، ويحصل على مبادراتٍ تمنح حكمه شرعية، هي شرعية الدماء.
تتحدث مبادرة حمزاوي لعلاج ما أسماه “الانسداد السياسي” الحالي عن تدشين إطار للعدالة الانتقالية، وعمل لجان متخصصة لها، وإصلاح الأجهزة الأمنية، والسماح لكل الأطراف السياسية بالمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية، بشرط نبذ العنف، وإجراء انتخابات برلمانية جديدة، في المستقبل القريب.
لا يبتعد مضمون هذه المبادرة عن مفاوضات تعويم بشار الأسد في الأمم المتحدة، وتأتي متزامنة معها، وخلاصتها أن عبد الفتاح السيسي، بعد كل هذه الجرائم، وهذه الآلاف من الضحايا، لا غبار عليه، يمكنه أن ينعم برئاسته المسروقة، فقط عليه أن يدخل بعض التحسينات على حكومته وبرلمانه.
كان من الممكن أن تكون هذه المبادرة مقبولة سياسيًا وأخلاقيًا، قبل أن تجري الدماء أنهارًا، عقب انقلاب السيسي على الديمقراطية في مصر، وقبل أن تضيق الزنازين بعشرات الآلاف من الأبرياء، وقبل أن تصرخ امرأة مصرية بأن ابنها المعتقل فقد ذاكرته، ولم يتعرف على أمه حين زارته في السجن.
هل قرأ عمرو حمزاوي هذه القصة التي نقلتها سيدة من المعتقل؟
تقول: فلتسمحوا لي بأن أوضح لكم قهرًا بالمعنى الحرفي للكلمة..
بالزيارة أمس .. كانت هناك أم لمعتقل تبكي بحرقة شديدة جدًا، وتضرب بكفيها على وجهها، حتى تتأكد من أنها لا تحلم، وأن ما هي فيه ليس بكابوس، وأنه حقيقة مرة تعيش فيها..
وذلك لأن ابنها لم يتمكّن من التعرف عليها.
نعم .. فابنها لم يكن يعلم من هي.
فابنها أصبح مضطربًا نفسيا مما تعرض له..
فابنها يشرد ويحدث نفسه، ولا يدرك هوية أهله..
فابنها لن يعرض على طبيب نفسي، لأنهم لم يوافقوا طبعًا..
فلقد فقدت ابنها وهو أمامها
لم يتمكّن أحد في الزيارة من فعل شيء إلا البكاء والدعاء.
قل لنا، يا دكتور حمزاوي، كيف يمكن إعادة الذاكرة لهذا السجين، بحيث يتعرّف على أمه. وساعتها، يمكن التعامل مع مبادرتك.
كارثة مصر ليست في قاضٍ يطلق أحكام إعدام بسرعة مدفع رشاش، أو وزير عدل، يمثل آخر ما تبقى من خلاصة النازية والفاشية، ولا في شرطة عقيدتها التعذيب والتنكيل بالبشر. كارثة مصر في رأسها، فيمن يشغل كل هذه الأدوات، لمصلحته، لا لمصلحة الوطن.
هو الذي أمر الشرطة بالتوسع في القتل “من هنا ورايح مفيش ضابط هيتحاكم”، وهو الذي فتح الباب للقضاء للإفراط في أحكام الإعدام (يمكنك أن تعود إلى تصريحاته في جنازة النائب العام) هو الذي لا يفرّق بين قدسية مياه النيل وزجاجة مياه معدنية، هو الذي لا يعرف مصر، هو الغريب على اجتماعها وتاريخها وقيمها، فكيف يكون جزءًا من حل مشكلتها؟
كما قلت سابقًا عن عمرو حمزاوي، هو من تلك النوعية من السياسيين التي تلين وتتكيف مع سلطة الأمر الواقع، سواء كان هذا الواقع “إخوانيًا” أم “عسكريًا” فلديه قدرة هائلة على الجمع بين المتناقضات. لذلك، تجده يصرخ من الظلم، ثم يطرح مبادرةً للتصالح معه وتقنينه، يتحدث عن قتل السياسة، عمدًا ومع سبق الإصرار والترصد، ثم يقدم لك وصفةً لما يعتبره “مجرد انسداد سياسي”.