في يوم واحد ، وفى نفس المكان، وربما نفس التوقيت، وقع حادثان كوميديان في ميدان التحرير، كان الغرض منهما السخرية وإبراز حجم المفارقة التي صارت إليها ثورة 25 يناير، ثمة تشابه كبير بين الحادثتين، لكن النهايات كانت مختلفة تمام وكلياً، ما استدعى عدد من الأسئلة أطرحها في هذه السطور.
الحادثة الاولى
ظهر موقع دوت مصر عبر أحد مقدمي برامجه المتميزين في ميدان التحرير نهار يوم 25 يناير 2016، أدار المذيع عدد من اللقاءات مع المحتفلين، و الذين أجمعوا على أنهم اجتمعوا في هذا المكان للاحتفال بعيد الشرطة وليس ثورة يناير، لكن اللقاءات كانت ساخرة إلى حد كبير، وتعمدت بصورة واضحة إظهار جهل المجتمعين بكل شيء حتى السبب التاريخي لتجمعهم في الميدان، وقد عبر أحد هؤلاء بأنه نزل من أجل ( الزيطة ) وهي كلمة دارجه تعبر عمن يحدث ضجيجاً دون فائدة أو معنى أو سبب، فقط لرغبته أو حبه في الضجيج و الإزعاج.
ولا يخفى على أحد ان من نزلوا في هذا اليوم احتفالاً بعيد الشرطة إنما هم من المؤيدون للنظام الحالي، وهو بطبيعة الحال لا ينظر بعين الرضا للاحتفال بذكرى الثورة التي تثير في نفسه ذكريات مؤلمة ، ومن ثم فالاستهزاء بمن يؤيدوه على هذا النحو أمر لا يصح أن يمر مرور الكرام.
فدخول الميدان المحاط بمختلف أشكال وأنواع القوات العسكرية لا يمكن أن يتم إلا تحت أعين أجهزة الأمن، ولا يمكن أن يسمح بتقديم أي محتوى إلا بإذن وتصريح – علني او ضمني – من هذه الأجهزة، فضلاً عن المفارقة الكبيرة في إعلان شخصين ممن تضمنتهم اللقاءات عن انتمائهم للشرطة وسماعهم لكل ما يتم تسجيله.
الحادثة الثانية
في نفس اليوم ونفس الموقع وربما نفس التوقيت ظهر شاب يداعب أفراد الشرطة ويهنأهم بعيدهم عبر منحهم بالونات مكتوب عليها إهداء لطيف، وكانت المفارقة أن هذه البالونات ليست سوي واقيات ذكرية.
كان الهدف هو السخرية من القوات الموجودة، عبر خدعة لم يتمكنوا من اكتشافها، واذا حاولنا تأويل الموقف بأكثر من ذلك، فربما يعنى الاستهزاء بالمناسبة على اعتبار أن الحدث الأقوى و الأولى بالاحتفال في هذا التاريخ هو ثورة الشعب المصري في 2011.
لاشك أن الشرطة المصرية تشعر تجاه الثورة بمشاعر مؤلمة، حيث تم ايهامها بأنها سقطت وأن رجالها بالتعبير المصري الدارج ( لم يقفوا موقف الرجال )، والواقع أن النظام كله كان قد سقط حتى قبل سقوط رجال الداخلية، والواقع أيضاً أنه لم يكن من الإنصاف أن يطلب منها حل الأزمات السياسية على طريقة ( معركة في شارع )، لكن هذا على كل حال ما يتم ترويجه واقناع أفرادها به، وكأنهم في تحدى مع فئات الشعب المختلفة في إثبات رجولتهم التي هي تتمثل في البطش والقوة تماماً كالفتوة في روايات محفوظ.
ومع إثبات الرجولة المفترض جاء اختيار الواقي الذكري بمثابة الصدمة لرجال الأمن، باعثاً تلك الذكريات المؤلمة في نفوس الأمن المصري وعازفاً على أحد الاوتار الحساسة المتوهمة في عقول رجال الأمن، ما استدعى تعاملاً سريعاً وعنيفاً مع الموقف الساخر على العكس تماماً من التعامل مع الموقف الأول الساخر أيضاً.
التعامل مع الموقفين
لست بصدد الدفاع عن أحد من الفريقين، كما أننى لست معنياً بخيالات واوهام رجال الأمن، لكن المقارنة بين الحادثين تثير في نفسي عدد من الأسئلة أو الملاحظات هي على النحو التالي:
- لماذا سمح الأمن لموقع دوت مصر بالسخرية من جميع من تواجد بالميدان ( بما فيهم رجال الأمن المركزي)؟ بينما رفض سخرية الشاب في الحادثة الثانية ؟
- كان الأمن على علم تام بمحتوى السخرية فى الموقف الأول وقبل بها، بينما وقع فى شرك خدعة صاحب الموقف الثاني.
- هل يمكن أن يدخل أحد إلى ميدان التحرير في مثل هذه الظروف دون علم أجهزة الأمن حاملا معه معدات تصوير وتسجيل.
- ما الفارق بين السخرية من الشعب الذى يجهل سبب الاحتفال وبين قوات الامن التي جهلت حقيقة الهدية؟
- سخرت ( مؤسسة ) دوت مصر من ( أفراد ) الشعب تحت سمع وبصر الامن دون مشكلة.
- سخر ( أفراد ) ينتمون إلى الشعب من ( مؤسسة ) هي وزارة الداخلية دون علم الامن فحدثت مشكلة.
- هل الاختلاف بين الحادثتين يكمن في قوة المؤسسات أم في علم أجهزة الامن أم في أوهام الرجولة و الذكورة.
عودة إلى الوراء
أسس الراحل عبد الله كمال موقع دوت مصر، ولا يخفى على أحد حجم ووزن عبد الله كمال في نظام مبارك، فقد كان دون شك واحد من أعمدته الأساسية، وثمة زعم أنه أسس الموقع بتمويل إماراتي مستمر حتى الآن، وثمة زعم آخر أن الموقع على علاقة وطيدة بالفريق أحمد شفيق، وما بين المزاعم والحقائق، نخلص بنتيجة واحدة مفادها أن موقع دوت مصر ( مع الاحترام الكامل للعاملين فيه) لا يمكن افتراض حياديته، ولا يمكن وصفه على انه صوت المهمشين أو أنه موقع معارض أو حتى مختلف.
أضف إلى ذلك أن حلقات الفيديو التي يبثها الموقع سُمح لها بالحديث في موضوعات ثقيلة على نفس النظام، فعلى سبيل المثال و ليس الحصر خصصت أحد الحلقات للسخرية من معرض ومؤتمر Cairo ICT و هو الحدث الذى افتتحه السيسي و تحدث من خلاله عن أمنيات وتطلعات تخص عالم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وقد سمح له بالتصوير داخل أروقة المعرض وبحرية تامه.
فى 25 يناير 2011، كان عبد الله كمال مؤسس موقع دوت مصر يدافع عن نظام مبارك ويهاجم الثورة، بينما كان الشاب صاحب فكرة الواقي الذكرى في الميدان يطالب نظام مبارك بالرحيل، فهل حدث اختلاف في المواقع على الأقل فيما يخص موقع دوت مصر .
يبدو ان موقف الشاب – بشكل أو بآخر – لم يتغير، فهو لايزال مهاجماً وساخراً من النظام الذى يمثل امتداداً واضحاً لنظام مبارك، لكن اللافت هو موقف هذا الموقع الذى يبدو ظاهريا على الأقل أنه قد اختلف، وقد يكون أحد تفسيرات ذلك أن سياسة الموقع تعد امتداداً لآراء الفريق أحمد شفيق الذى يحمل انتقادات عديدة للنظام الحالي تصل إلى حد اعتقاده أن كان الأحق والأولى بتولي الرئاسة، لكن ثمة تفسير آخر لا يجب أن يغيب عن الأذهان، وهو أن الأنظمة الامنية – كالنظام المصري – تسعى عادة لخلق المعارضة التي تبدو ظاهريا مختلفة معها، لكنها في الواقع تسير وفق حدود رسمتها أجهزة الامن، وفى اليسار المصري في عهد مبارك مثال جدير بالتذكر، فقد كان حزب التجمع يطلق في الظاهر أشد الانتقادات للنظام لكن مسئوليه في الباطن كانوا على علاقات وطيدة ومتعاونة مع أجهزته الامنية.
فهل يكون الموقع هو المعارضة المُختلقة التي تتصف بأنها مهذبه وعلمانية وشبابية وقادرة على جذب تلك الأطياف التي شردت عن قبضة النظام العجوز، أم أنه يعبر عن اختلافات بين أقطاب النظام ذاتها وفق النظرية التي يروج لها البعض، عل المستقبل القريب يحمل الإجابة.