تزداد الأوضاع العربية صعوبة، وهي سائرة نحو حالة أشد وطأة منذ ٢٠١١. ما قام به تنظيم «داعش» منذ أيام، من تفجيرات في مناطق في الساحل السوري ثم مقدرته على تدمير معدات وطائرات في مطار عسكري روسي في منطقة تعتبرها روسيا آمنة، يؤكد أن الحرب ستستمر في سورية وأن روسيا وقعت في ورطة لن تخرج منها بلا ثمن سياسي وعسكري. الثمن الذي ستدفعه روسيا لا يجعلها وحيدة في ذلك، فكل الأطراف ستدفع أثماناً مضاعفة في كل مكان. لكن هذا ليس كل ما في الأمر، فالمشهد في العراق وفي اليمن ومصر وليبيا يعكس طبيعة الحالة التي دخل فيها الإقليم، والتي أكثر ما تؤثر على المدنيين العرب في كل مكان.
في بيئة كهذه تهاجر الأموال وقلما يأتي غيرها، فمعظم صناع المال ممن يستثمرون في البلدان العربية سواء كانوا من العرب أم من المستثمرين الأجانب يعيشون حالة خوف من الحروب والنزاعات بالإضافة إلى عدم الثقة بالقوانين المفاجئة والفساد المستشري وسلطة النظام مقابل سلطة القضاء. من استثمر في هذا البلد العربي أو ذاك (مع استثناءات محدودة) لا يعرف إن كانت التعهدات التجارية للدول ستستمر من عهد لآخر أو من رئيس لمن يليه. الربح السريع هو سر التعامل مع المنطقة العربية، لكن ذلك سبب من أسباب أزماتها وضعف التنمية في ربوعها.
وبسبب الحروب والقمع السائد في الإقليم، اندفعت أعداد كبيرة من الناس للهجرة والهرب طلبا للأمان، نجد أيضاً أن مناطق السلم العربية التي يجب أن تكون بحالة أفضل من مناطق الحرب، هي الأخرى تعيش حالة من حالات الترقب المرتبط بالقلق. إنها أيضاً تنتظر تطورات واقع لم تخطط الأنظمة للتعامل معه. حالة التفرقة وحالة التفرد والفساد تدفع نسباً كبيرة من الأجيال الشابة في بلادنا نحو الهجرة، فهجرة السوريين واللبنانيين والمصريين، وقبلهم الفلسطينيون ليست الوحيدة ولن تكون الأخيرة. فالعالم العربي في الإطار العام وكما يعبر عن نفسه في السنوات الماضية، والأصح في السنوات التي سبقت الربيع العربي، ورغم وجود استثناءات محددوة، طارد للكفاءات وللقدرات، وذلك بسبب عجزه عن بناء بيئة وبنية إيجابية لهذه الكفاءات. وترتفع هذه النسب بصورة أكبر في صفوف المتعلمين تعليماً نوعياً وفي صفوف من عاشوا في الغرب ودرسوا فيه.
والجديد أن نسبة متصاعدة من أبناء منطقة الخليج في دول مجلس التعاون يتحدثون عن المستقبل من زوايا لم يتناولوها في السابق، فقد أصابهم ذات الضيق الذي يصيب غيرهم. فبعضهم يشعر بأنهم تحولوا إلى أقلية صغيرة وسط بحر من السكان الجدد، وفي مكان آخر يشعر قطاع أنه مهمش بسبب انتماء طائفي أو قبلي، وفي مكان ثالث يختبر الجميع حالة تآكل واضمحلال في الإدارة، أما في رابع فيشعر المواطن بأن المكان طارد بسبب ندرة الحقوق وضعف الاستيعاب التنموي. نتيجة وضع كهذا هي التآكل البطيء، فيوم غد لن يكون كاليوم. الندرة والتراجع والتفكك ستكون سمة من سمات المستقبل إن لم تجد المجتمعات والأنظمة السياسية بدائل إصلاحية تتناول بصدق وعمق الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإنساني.
إن دخول الإقليم في حالة احتضار متوسطة الأمد تلاحقه الآن. لم تكن طموحات الهجرة بهذه الكثافة في السبعينات والثمانينات. الواضح أن الأغلبية العربية القادرة على مغادرة بلادها ستسعى للهجرة إلى دول ومناطق تحترم الإنسان على أعماله، وتسمح له بالتمتع بحريات في التعبير والتنفيس، بل تسمح له بالمشاركة في الحياة السياسية بلا خوف أو تهديد من ضياع حقوق شخصية أو تجارية. بمعنى آخر، إن لم ينجح العرب في تحويل بلادهم إلى واحة تنمية وشفافية وحرية وجذب، فسوف يكون النزيف القادم قاتلاً لعروبة البلاد ولاستقلالها وسيقع في دول السلم العربية ما يقع في دول العنف العربية. الاتجاه التاريخي الذي يمر به الإقليم يعكس هذا الأفق ويتطلب رؤى مختلفة جوهرها إصلاحي.
وهناك جزء من الجيل العربي يهاجر بالتزام وزخم إلى مناطق الحرب والقتال العربية، بل لديه ردة فعل مختلفة. لهذا يتطوع البعض إلى العراق وسورية للقتال، فمن يهاجر للقتال من دول عربية أو من دول غربية يعتقد انه سيغير المعادلات ويغير المصير الذي يتحكم بالعالم العربي. وهذا الجيل سيعود يوماً إلى بلده الذي تركه بعد أن اكتسب خبرة عسكرية وتنظيمية وطرق صمود ومواجهة في ظل القتال والحرب. وعندما لا يجد في بلاده معادلة واضحة للحقوق والحياة والعمل والعدالة، فسيتحول الجيل العائد إلى جزء من مشكلة أكبر.
استوقفني حديث منذ يومين مع صديق حول نسب الانتحار في الأردن من العام ٢٠٠٩ إلى ٢٠١٥. فبحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن المركز الوطني لحقوق الإنسان والأمن العام والمنقولة على موقع «حبر» ضمن مقال عن «الصحة النفسية في الأردن: ماذا بعد محاولات الانتحار»، أن نسب الانتحار في الأردن كانت في أدناها عام ٢٠١١، أي عام الربيع العربي. ذلك العام مثّل عام التفاؤل بالتغيير. لكن هذه النسب ارتفعت ثانية في الأعوام التالية. يمكن القول إن روح الانتحار مجسدة في العالم العربي، وهي قائمة في كل مكان تقريباً حيث الكثافة السكانية وانسداد الأفق، وهذه الأجواء هي الأفضل لمدرسة التطرف الراهنة لكنها الأفضل في الوقت نفسه لإشعال حالة قد تتحول إلى ثورة كما حصل مع بوعزيزي في تونس.
لا زال هناك قطاع هام من الجيل العربي يعلم أنه باق على أرضه وفي وطنه، وهو يعلم أن العالم لن يستوعبه وكذلك بلاده التي أصبحت طاردة بالنسبة إليه. هذا القطاع من الجيل العربي عاقد العزم على خوض غمار تجربة تغير وإصلاح في بلاده مهما كان الثمن، بل يعلم هذا الجيل أن مستقبله ومستقبل استقراره رهن بهذا الإصلاح وليس رهنَ القبول باستمرار أوضاع الفساد والاستبداد والاحتكار. هذا الوضع يؤدي إلى صعود كبير في العمل السياسي والنقابي والاجتماعي في طول المنطقة العربية وعرضها، وهذا يمثل الأساس الحقيقي لإمكان تفاعل تيارات إصلاحية في قلب المجتمع مع فكرة إصلاح الوضع العربي.
العربي الباحث عن الإصلاح أو العربي الثائر والمقاتل وممارس العنف أو العربي المهاجر يعبرون على اختلافهم عن الطبيعة الإنسانية الساعية للحرية وحب البقاء والمعاملة الحقوقية والمشاركة. وما وجود سياسات وقوانين في الدول العربية تعاند الطبيعة الإنسانية إلا مدعاة لانتشار العنف والثورات والانهيارات. في الغرب حصلت مصالحة تاريخية بين الإنسان وطبيعته، بل بين علاقة السعادة بالكرامة بالعدالة بالمساواة والحقوق بالحريات الشخصية والمدنية والتداول على السلطة، وعلاقة كل هذه الأبعاد بحدود الدولة وحدود السلطة، أما في الشرق فنحن نحارب أبسط الطبائع الإنسانية فتنفجر في وجهنا على شكل أمراض سياسية واجتماعية.
لوم الخارج لن يحل المشكلة وإن كان هذا الخارج جزءاً واضحاً منها، فالخارج الدولي والعالمي أو الإقليمي يتحمل المسؤولية عن جزء من محنتنا، لكنه لا يتحمل مسؤولية عناصرها الأهم التي نتحملها نحن العرب. الخارج لا يهتم لأمرنا نحن العرب إلا كسوق للسلاح ومكان للتبادل بين الدولار والنفط أو كمكان للتنافس السياسي والنفوذ. لكن الغرب سيكتشف أن انحيازاته وغضه النظر عن كل ما له علاقة بحقوق الإنسان العربي في ظل خوفه المبالغ به على إسرائيل وسعيه الدائم لتفوقها العسكري سيؤسس لصراعات كبرى بين الشرق والغرب. وهذا ما نشهد جانباً منه في هذه المرحلة.
النظام العربي الراهن فقد الصلة بالحقوق والعدالة والكرامة وحسن المعاملة، فلا يوجد تجمع عربي واحد مدعوم بصورة رسمية يحتج لدى دولة أخرى ويفرض عقوبات لقيامها بمجازر أو انتهاكات كبرى بحق مواطنيها. مجرد سرد لعلاقة العالم العربي بالسودان بعد الكوارث التي وقعت على أرضه دليل على ذلك، وهو ليس المثل الوحيد. الحالة الوحيدة التي يقف العالم العربي موقفاً واضحاً من حقوق الإنسان فيها مرتبطة بالسياسة، كقضية فلسطين أو سلوك نظام الأسد بحق الشعب السوري، لكن في عشرات القضايا يفشل النظام العربي في الالتزام بمقياس قانوني وحقوقي وإنساني. قد يقول قائل: هذه طبائع ثقافة الاستبداد العربية التي لا تشعر بآلام الضحايا. لهذا بالتحديد الباب العربي مفتوح لمزيد الهجرة ومزيد من الكراهية والعنف. وبطبيعة الحال فالشعوب الخائفة على مصيرها اليومي لن تصنع الحضارة، والجماهير المرعوبة ستقاتل لكنها لن تصنع فجراً جديداً. في المرحلة القادمة ستلد الحروب حروباً فرعية، وتلك الحروب ستنبت مقاتلي الغد.
نحن العرب نعيش الظروف ذاتها التي عمت الغرب في أسوأ مراحل تاريخه. ومع ذلك اكتشف الغرب مخارج، وسنكتشف مخارج جديدة، لكن ليس قبل دفع ثمن كبير لتحقيق الاكتشاف. مع الوقت سنعود متبحرين بمعنى العقلانية والعدالة والحريات والديموقراطية والتداول والمساءلة والشفافية وعلاقة الدين بالدولة وعلاقة الدولة بالحقوق والمجتمع. هذا قد يكون كفيلاً بإنهاء حكم الفرد المؤدي للاستبداد في البلاد العربية.