اعتبره رشفةً خاطفة من كوب ماء وحيد في صحراء قاحلة.. اعتبره”نزوةً قضائية” عابرة..
قل ما شئت عن الحكم التاريخي الصادر عن محكمة القضاء الإداري التابعة لمجلس الدولة، أمس، ببطلان تنازل عبد الفتاح السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير للشقيقة العربية السعودية، لكنه يبقى مناسبةً للفرح، وإن لم تستمر طويلا، وحدثاً يعيد للوطنية المصرية اعتبارَها، ويوقف هذا العار القومي الذي يلحق بمصر وبالسعودية معاً.
بالغ قطاعٌ من الناس كثيراً في الاحتفال بالحكم الابتدائي الذي حصل عليه السياسي والمحامي البارع، خالد علي، وهم محقّون في الارتفاع بسقف البهجة والشعور بالانتصار إلى السماء.
كما بالغ قطاع آخر في التوجس والارتياب، وتوقع كوارث قادمة، يخطّط لها النظام العسكري، خصوصا أن المحكمة نفسها لم تنتظر دقائق، حتى نثرت على الوجوه المتعبة قطرات أملٍ أخرى، بحكم إلغاء مصادرة أموال قديس الكرة المصرية، ومعشوق جماهيرها، اللاعب محمد أبو تريكة.
الذين بالغوا في الفرح محقون، ولدى الذين أفرطوا في التوجس مبرّرهم، أيضاً، ذلك أن الناس في مصر نسوا طعم العدل ونكهة الحق، منذ زمن بعيد، وفقدوا الأمل في عودة العدالة التي قلت عنها، في مثل هذه الأيام من العام الماضي، إن القاصي والداني يعرفان أن أسراب العدالة هاجرت من مصر، عقب لحظة الانتكاس الثوري في ذلك الصيف الحزين من عام 2013. ويدرك البعيد قبل القريب أنه من السذاجة أن يردد بعض الناس أن مصر دولةٌ تعرف القوانين، حتى من باب المجاملة والنفاق، ذلك أن أشدّ المتواطئين مع النظام الحالي لا يمتلكون شجاعة، أو وقاحة، الكلام عن عدالةٍ متحققةٍ وقضاءٍ يتمتع بالحد الأدنى من المهنية.
غير أنه من الموضوعية أن نشير إلى أن مياهاً كثيرة جرت تحت جسر الاستبداد خلال الشهور الفائتة، إذ تصدّعت على نحو ملحوظ جدران مؤسسة الانقلاب، بفعل كوارث سياسية انفجرت مثل البراكين، اكتشف المحبون لمصر معها أن الذي يحكمها، عنوةً، يعبث بثوابتها وقيمها ومحدّداتها الوطنية المستقرة، فاتسعت رقعة النضال ضد انحرافه بمصر عن مسارها التاريخي، التفريط في مياه النيل والتنازل عن الأرض، ورهن السيادة الوطنية للعدو الصهيوني، الأمر الذي أيقظ الشعور الوطني لدى مجموعاتٍ ومؤسسات.
كانت جريمة الانتقام من رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، المستشار هشام جنينة، لأنه أزعج مؤسسة الفساد، ثم كانت عملية تأديب نقابة الصحافيين، عقاباً على استقبالها المتظاهرين ضد انفراد السيسي ببيع الجزيرتين، والتنكيل بناشطين سياسيين ومواطنين هتفوا ضد التفريط في الأرض.. أوجد ذلك كله وعياً وطنياً مفارقاً ومختلفاً عما تم تسييده منذ انقلاب السيسي، واعتماد بذاءات وابتذالات مصطفى بكري ولميس الحديدي وأحمد موسى وعزمي مجاهد مقرّرات ونصوصاً في مدرسة الوطنية الفاسدة الجديدة.
من حق المصريين، والسعوديين أيضا، أن يفرحوا بهذا الحكم، حتى وإن كان عابراً ولحظياً وسيتم إلغاؤه في درجات تقاضٍ أخرى، كونه يوقف مهزلة توسيع وكر السلام الدافئ، ليضم السعودية، ولأنه أسقط أكثر المقولات انحطاطاً وتسفلاً في وصف العلاقة بين مصر والسعودية، تلك التي وردت في كتاب أصدرته وزارة ثقافة عبد الفتاح السيسي، بالأمر، لكاتب “بدرجة مصطفى بكري”، يقول فيه إن من حق إسرائيل استرجاع طابا، إذا أخذت مصر تيران وصنافير من السعودية.. هكذا صار ما يربط مصر بالسعودية هو نفسه ما يربط مصر السيسية بالعدو الصهيوني، بجملةٍ واحدة من كتبة السيسي، فأي عارٍ يلاحق السعوديين والمصريين، معاً، عندما يقال إن العلاقة بينهما كالعلاقة مع الصهاينة، سواء بسواء؟
ويبقى أهم ما في الحكم أنه يعرّي الجنرال المسكون بأوهام العبقرية والنبوة من كل قيمةٍ وطنيةٍ، أو جدارةٍ بالقيادة، ويضع المصريين أمام شخصٍ لديه استعداد للتفريط في أي شيء، مقابل إنعاش فرصه في البقاء في سدة الحكم، وأيضاً يفضح الأسطورة القائلة إن مصر دولة لديها مؤسسات.
لكن الحكم، قبل ذلك وبعده، يضع الذين غرّدوا وصرخوا: شرعيتك سقطت، في وجه رئيسٍ منتخبٍ بشكل ديمقراطي، أصدر إعلاناً دستورياً لعزل نائب عام الثورة المضادة، يضعهم في اختبار تاريخي في الأخلاق وفي السياسة، ويطرح عليهم سؤالاً: ما قولكم في شرعية حاكمٍ مغتصب للسلطة، باع قطعتين من لحم الوطن بقرار فردي، أبطله قضاء مجلس الدولة؟
شكراً خالد علي، ومبروك للمصريين والسعوديين، وفي انتظار تغريدة المغرد.