يُمكن أن تكون صفحة 30 يونيو/حزيران 2016 صفحةً للتوافق بين كل أبناء الشعب المصري، بعد أن أدركوا أن اختلافهم هو ما يُمكّن المستبدين من رقابهم.
طي صفحة الماضي الذي فرّق، وفتح صفحة المستقبل الذي يجمع، لم يعد ترفاً يميل له البعض ويتجنبه البعض؛ ولم يعد اصطفافاً يدعو له فريق ويسفهه فريق ويترفع عنه آخرون.
طي صفحة الماضي الذي فرّق أصبح ضرورة لحماية الأرض من التنازل عنها قطعةً قطعة، والمياه من ضياع حقوقنا فيها قطرة قطرة، والثروات من تبديدها بين الفشل والفساد، والحرية من الذهاب بلا عودة، والكرامة من النزيف حتى الموت..
طي صفحة الماضي لا يعني أن يتنازل أحد عن رؤيته ولا أن يركع أحد مستعطفاً الآخر ولا أن يقتل أحد نفسه ندماً على خطأ ارتكبه.
طي صفحة الماضي يكون بالكف عن كتابة المزيد في الماضي، والبدء في تسطير المستقبل في صفحاته التي لا تزال بيضاء بكراً، تنتظر من يضع فيها أول حرف.
كلنا قال ما يود قوله في الماضي، وكلنا امتدح وانتقد، وكلنا بكى وضحك، وكلنا تصايح وتنازع، لقد شبع الماضي منا، وآن لنا أن نقنع بما أدينا فيه وأن نعتبر مما أخطأنا خلاله.
كم من أمم تحطمت أحلامها على أطلال ماضيها؛ لأنها تفانت فيه حتى فنيت، وغنت له حتى ثملت، واشتاقت له حتى خملت.
سيبقى الماضي ماضينا، لا يُمكننا أن نفر منه أو نغيّر حقائقه، لكننا يُمكن أن نُصلح عوجه بما نفعل في المستقبل، ونزيد إيجابياته بتعظيمها في المستقبل.
ثلاثة 30 يونيو مرّت علينا، وما حمله المتظاهرون فيه من مطالب اقتنعوا بعدالتها تبتعد وتتلاشى، وما حمله من اعتصم دعماً للشرعية من رؤى آمنوا بصحتها تذوي وتختفي.. لم يبقَ من الماضي إلا من تظاهر ومن اعتصم ومن استُشهد ومن اعتُقل.. فهل يُمكن لهؤلاء أن يشكلوا معاً وقوداً للمستقبل وعناصر لتغيير ما هو مفروض علينا جميعاً؟!
البقاء في الماضي أعاد إلينا أسوأ ما فيه؛ نظام استبداد واستعباد يُنكر علينا حتى حق الحياة وحق النفس وحق الكلام وحق الاختلاف أو الاتفاق. تماماً كما في الكوابيس التي لا يُمكن للنائم أن يتخلص منها، فتنتقل به من السيئ إلى الأسوأ ومن المخيف إلى المرعب. لن يُنقذه إلا أن يستيقظ ليكتشف أنه مرّت عليه ليلة كاملة وهو يعيش في كوابيسه، وأنه يُمكنه التحرر منها بأن ينفض عنه النوم، وأنه يعيش في الغد الذي انتظره لكي يواجه فيها كوابيسه ويمحق أثرها.
ربما يرى بعض منا ماضيه أنقى من الآخر، ويرى بعض منا كابوسه أسوأ من الآخر، لكن ذلك لم يعد له كثير قيمة، فنقاء الماضي سيُلوثه حاضر تسيطر عليه الكوابيس، وما تراه ليس أسوأ ما ينتظرك، فالأسوأ دائماً يأتي لاحقاً إن لم تواجهه وتوقفه وتردعه.
كيف كان يمكن لألمانيا أن تصل إلى ما وصلت إليه اليوم لو أنها غرقت في ماضيها المنكسر والمهزوم والمأزوم؟ّ!
بل كيف ستواجه بريطانيا عواقب خروجها من الاتحاد الأوروبي إن بقيت قواها السياسية تتلاوم على مَن قصّر ومَن أخطأ دون أن تُسارع لوضع رؤية للمستقبل ولمواجهة مستحقاته.
ما زال لدينا فرصة هائلة لصياغة مستقبلنا وفقاً للحلم الذي حملناه معاً: عيش وحرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية؛ فعناصر النجاح لا تزال موجودة تحتاج لمن يضمها لبعضها، وما أنتجته ثورة يناير/كانون الثاني أعظم من أن يمحوه خلال ثلاث سنوات انقلاب مهما كان دموياً وقمعياً وغاشماً..
الشباب الذين حملوا الحلم ما زالوا يجوبون الشوارع بنفس الحلم، وقد استثارت قضية صنافير وتيران المصريتين حميتهم فعادوا لهتافاتهم ولنقاء ثورتهم.. القوى السياسية التي أطلقتها ثورة 25 يناير لا تزال موجودة رغم التضييق الذي يُمارس عليها وقد كتبت لهم الكوارث كتاب عظة ليتعلم منها كل متواضع.. والشعب ما زال يتطلع للحلم وينتظر شرارة الإطلاق.. والسلطة القمعية لا تفوت فرصة إلا وأجرمت جرماً أكبر من سابقه وأخطأت خطأ أفدح من كل أخطائها.. فالاستبداد المفضوح والخيانة الخرقاء يغذيان حلم الحرية والعيش بوقود الثورة.
صفحة المستقبل مهيأة للتدوين فيها.. بينما ما زال البعض يتشبث بالتدوين في الماضي.. المستقبل لمن يعانقه.. والماضي سيظل لمن يعاقره.