جافاه النوم، في تلك الليلة الطويلة، على الأرجح، ولعله كبح، في الصباح، دمعةً حرّى، حين أعطى لمساعديه إشارة الموافقة على ما كان يرفض، سنين عدداً: أبرموا بروتوكول استئناف التطبيع مع إسرائيل، من دون التزامها شروطي السابقة في شأن رفع الحصار عن قطاع غزة. واكتبوا رسالة اعتذار باسمي شخصياً، أنا السلطان المُتَيّم بإحياء تاريخ الدولة العثمانية، رجب طيب أردوغان، إلى القيصر الحالم هو الآخر بإمبراطورياتٍ غابرة، فلاديمير بوتين، ولتكن صيغتها كافيةً لإرضاء غطرسة يتمسّك بها، منذ أسقطنا الطائرة الروسية التي اخترقت المجال الجوي التركي.
هي لحظة تاريخية، ما كان الرجل يتوقع أن يصل إليها، حين استدار قبل قرابة عقد نحو الشرق العربي المسلم، لاعتباراتٍ امتزج فيها طموحه الإقليمي بواقع انسداد الأبواب في وجهه، من جهة الغرب الأوروبي المسيحي.
هنا الأستانة، ما عادت تحتاج الكثير لتنهض وتستردّ تاريخها، قال أردوغان لنفسه ربما، في مستهل العشرية الثانية من القرن الحالي، وهو يرى نظرات الإعجاب بتجربة حكمه، تتزايد في عيون جيل عربي، ينحدر من أجدادٍ، سبق أن شكّلوا وبلادهم، وإرثها الديني الحضاري، عماد الإمبراطورية العثمانية، وبسواعدهم توسعت، طوال قرون، قبل أن ينخرها فساد السلاطين، وتنهار، تحت ضربات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. هنا أيضاً، أي في هذه الأراضي الشاسعة الممتدة من الخليج الحائر بين سبات العرب ونهوض الفرس، إلى شواطئ الأطلسي، مروراً بشرق المتوسط، ثمّة دولٌ ضعيفة، ومهزومة، أردف قائلاً، ويمكن لتركيا، أن تمدّ الجسور معها، بل مع الأكثرية الكاثرة من أبنائها، إن تبنّت أمانيهم، في مواجهة هيمنة إسرائيل، وتمدّد إيران، وظلم حُكامهم.
لكن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر، وإذ صار أردوغان العدو اللدود للثورات المضادّة في العالم العربي، بعد تدخله لدعم الثورات الشعبية، فإن أحداً لا يعرف، على وجه الدقة، سر نكوصه المفاجئ أمام موسكو وتل أبيب. فقبل القرارين المدويّين اللذيْن اتخذهما، أو قل القرار المزدوج بالتطبيع والاعتذار، لم يكن ثمّة أنباءٌ عن إقلاع الطائرات الإسرائيلية لتدكّ أنقرة، ولا عن تحرّك الأساطيل الروسية نحو البوسفور والدردنيل، كما لم يكن ثمة إعلان صريح يتخلى فيه حلف شمال الأطلسي (الناتو) عن تركيا، أحد أهم أعضائه، ليتركها وحيدةً أمام مصيرها، فلماذا، إذن، ضحّى أردوغان، بصورته التي كانت قد ارتسمت في أذهان العرب والمسلمين، باتخاذه مواقف لا تُنسى، بدءاً من إهانة رئيس إسرائيل، شمعون بيريس، علناً، في دافوس، عام 2009، وحتى تمريغه أنف بوتين وسلاحه الجوي في وحل سورية، أواخر عام 2015، مروراً بمواقف التضامن مع الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي؟
لا جواب ممكناً على سؤال كذاك، من دون رؤية موقع تركيا في اللعبة الدموية الجهنمية التي باتت تغطي أجزاء واسعةً من جوارها الجغرافي. واللعبة الجهنمية الدموية بلغت من التعقيد حدّ أن يتحالف الأضداد ويتحارب الأصدقاء، سراً وعلانية، فإسرائيل، أهم حلفاء الغرب الأميركي الأوروبي، تصطف في هذه المنطقة من العالم، مع روسيا، منافسته اللدود التي تتشارك، من جهتها، مع عدوته المعلنة إيران، لحماية النظام السوري، وبحججٍ أهمها، أنه يمثل عنوان المقاومة الباقية ضد إسرائيل، بينما تركيا تجد نفسها وحيدةً، إلا من حلفاء عربٍ ضعاف، في مقابل أولئك جميعاً، ومعهم المسلحون الأكراد الذين باتوا يهدّدون حدودها وأمنها الداخلي، بدعمٍ مكشوف من أبرز شركائها في حلف الناتو.
ما الضير من رقصةٍ مع الدب الروسي، أو حتى مع نتنياهو الإسرائيلي، بعد سنوات الدبكة مع العرب، إن كان في ذلك ما قد يكفّ بعض أذاهما ذي الإخراج الكردي، تساءل أردوغان، أو هكذا يمكن تفسير موقفه، في حسابات السياسة التي ما من متسعٍ فيها لمشاعر من يرونه خليفة المسلمين، ولا لعواطف من يبغضونه إلى حد التخوين.