السلطة مولعة دائما بالسيطرة وتفتخر دوما أن يدها تطال كل شبر وأي شيء في البلاد، هذه تصوراتها التي تدور في فلكها وتسعد جاهدة من أجل تحقيقها وإثباتها لذلك جاءت أزمة تسريب امتحانات الثانوية العامة مؤخرا لتوجه لطمة قاسية للسلطة لارتباط الأمر بفكرة فقد السيطرة وتأكيد الفشل وترسيخ حالة العجز عن مواجهة المشكلة.
تقول لي طالبة الثانوية العامة الفتاة الصغيرة التي تعمل بجوار دراستها في محل لبيع الملابس لتساعد أهلها وتنفق على دروسها الخصوصية، تقول: ما ذنبي أن الحكومة فاشلة عن منع تسريب الامتحانات، لماذا يضيعون جهدنا طوال السنة، إن أهلنا يقتطعون من قوت يومهم ومن مصاريف دوائهم كي نتعلم وكما تراني عمري سبع عشرة سنة واضطررت للعمل منذ الصف الثالث الإعدادي لأساعد أسرتي وإلا سيكون البديل هو عدم استكمالي لدراستي، لماذا نتحمل فشلهم؟ إن حلم أسرتي أن ألتحق بجامعة حكومية وأتخرج منها لأجد وظيفة تخفف عنهم معاناتهم اليومية في ظل ضيق الحال وقصر اليد، كيف يريدون منا أن نصمت ونحن نرى أنهم عقدوا لجانا خاصة لأبناء الكبار بالبلد ليسهل فيها الغش لهم ليحصلوا على درجات نهائية لا يستحقونها على حساب ولاد ناس غلابة مثل أهلي!
هل تظن أن عملية التسريب هذه ليست من داخل وزارة التعليم نفسها؟ غدا يجعلونها حجة وسببا لإلغاء التنسيق ليتم حرمان الغلابة من كليات القمة ومن التعليم الجامعي بشكل عام، لن أصمت على حقي، ليس لدي ما أخسره، سأنزل غدا في المظاهرات أمام وزارة التعليم لنقول لهم إننا لا نترك حقنا يضيع وإننا لا نصدق هذه المسرحيات ولا ذنب لنا لكي يؤجلوا الامتحانات ويضاعفوا معاناة أهلنا..
وبالفعل لم أصدق أن هذه البنت ورفاقها من طلاب الثانوية العامة سيكسرون حاجز الخوف ويصرون على التظاهر في قلب العاصمة وفي عدة محافظات اعتراضا على مأساة تسريب الامتحانات ثم تأجيلها، تناقلت الصحف صور قوات الأمن وهي تطارد الطلاب الصغار وتفرق مظاهراتهم، لكن هذه الصور حملت دلالات واضحة عن تغير المشهد في مصر على عكس هوى السلطة.
نحن أمام قوى احتجاجية جديدة ومفاجئة تتمثل في الطلاب أو قل التلاميذ الذين نظموا أنفسهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي واتفقوا على شكل الاحتجاج ومكانه ولم يعيروا اهتماما لاحتمالية البطش الأمني لأنهم يرون أنفسهم أصحاب حق لا يمكن التفريط فيه.
أخطر ما في مظاهرات التلاميذ أنها تلقائية لا يقف خلفها أحد سوى الإحساس الجمعي بأن مستقبلهم في خطر، لا حسابات لديهم ولا محاذير بل عبرت هتافاتهم البسيطة عن مكنون ما في صدورهم ولم يهتفوا ضد السلطة إلا حينما بدأت القوات الأمنية تطاردهم في الشوارع وتحاول اعتقال بعضهم لتحول الاحتجاج الاجتماعي – إذا صح التعبير – إلى احتجاج اجتماعي سياسي مناهض لسياسات السلطة وموقفها الذي يرونه متخاذلا في حماية مستقبلهم.
انضم للمظاهرات أولياء أمور ومنهم مؤيدون للسلطة لكنهم أعلنوا سخطهم بسبب ما حدث لأبنائهم في رسالة واضحة مفادها أن مصالح الناس الشخصية إذا تعارضت مع السلطة فلن يظلوا على تأييدهم هذا.. قامت الوزارة بتأجيل بعض الامتحانات لإعادتها بعد تسريبها فكانت المأساة أن الامتحانات الجديدة تم تسريبها أيضا ولم يخجل وزير التعليم مما حدث ولم يفكر فى تقديم استقالته، وحتى الحديث عن أن جهات عليا ستتولى عملية الطبع والتأمين لم يغير ذلك شيئا وتم أيضا تسريب الامتحانات لتتأكد حالة الفشل والعجز التي منيت بها الدولة في مواجهة هذه الظاهرة.
دلائل وإشارات مشكلة تسريب امتحانات الثانوية العامة تعكس حالة فقد السيطرة على مسألة خطيرة تتعلق بمصير مئات الآلاف من الطلاب وأسرهم الذين لا يصدقون حتى هذه اللحظة أن الدولة لا تستطيع حماية وتأمين امتحانات الثانوية العامة التي تعتبر عتبة مقدسة لكل طالب مصري!
لا يوجد عاقل يؤيد تسريب الامتحانات لكن في نفس الوقت ما يحدث هو انهيار كامل للمنظومة الخربة للتعليم في مصر مثلها كمنظومات أخرى مهترئة تشكل في مجموعها إشارات بوجوب التغيير الجذري قبل السقوط الكامل، محاولات الترقيع لن تغني شيئا عما يجب فعله، كلما حاولنا ترقيع جزء فاجأنا انهيار آخر.
هذه دولة شاخت مؤسساتها ولم تعد لديها ما تقدمه للناس لذلك فلا بديل عن بدء إصلاح شامل وجذري في كل القطاعات والمؤسسات وهذا لن يتأتى قبل وجود إرادة سياسية جازمة تمضي في هذا الاتجاه ولا تقوم بالتطبيع مع الفشل والفساد، إذا وجدت يوما هذه الإرادة سيتغير الكثير …