لم يكن تحول رجب طيب أردوغان الأخير باتجاه إسرائيل وروسيا أمراً مفاجئاً لمن يعرفون الرجل ويتابعون تاريخه، ولن يكون الأخير على الأرجح. والتقلبات والتحولات في حياة رجال السياسة ليست أمراً نادراً أو مُستبعداً، لكنها تنضج على مدى سنوات طويلة، وتقف وراءها دوافع وأحداث مفهومة على الغالب، أما لدى أردوغان فالتحولات من النقيض إلى النقيض، ومن الشيء إلى عكسه تماماً تحدث في لمح البصر، وتتلاحق بما يفوق القدرة على التصور، إلى درجة أن الشخص الذي يغيب عن متابعة الأحداث شهراً سيُصدم إذا تابع مستجدات أردوغان، وسيحتاج إلى وقت طويل قبل أن يُصدق ما يرى.
أردوغان الذي ملأت عنترياته الفضاء صخباً وضجيجاً تجاه روسيا قبل أشهر قليلة «ينكص على عقبيه»، متضرعاً إلى فلاديمير بوتين أن يصفح عنه، ويقدِّم اعتذارات وتوسلات مثيرة للشفقة، وهو من كان يبدو بالأمس القريب متقلداً ثوب الفارس الذي لا يهاب النزال. وبعد كل التهديدات التي خالها السُذَّج تمهيداً لحرب السلطان خليفة المسلمين الأفخم على روسيا المعتدية، أسفر الصبح عن مولود جاويش أوغلو، وزير خارجية السلطان المهزوم، واقفاً بالأعتاب في موسكو، يغتصب ابتسامة ويُعلن أن بلاده جاهزة تماماً للتعاون مع روسيا في «الحرب ضد الإرهاب»، أي الحرب ضد الجماعات التي دعمتها تركيا وتحالفت معها وقدمت لها كل التسهيلات اللازمة. وهي تضحي بها الآن في لحظة، ففيم كان إسقاط الطائرة الروسية والتصريحات النارية التي لا يزال صداها الأجوف يتردد في الفضاء؟
التمس مولود جاويش أوغلو، وزير خارجية تركيا، فيما التمس، لقاءً يجمع فلاديمير بوتين برجب طيب أردوغان، وأعلن أوغلو في ما يشبه الرجاء أن منتجع «سوتشي» قد يشهد مثل هذا اللقاء، لتذيعه وكالة «إنترفاكس» الروسية على لسانه هو. ومكان اللقاء لا يخلو من دلالة، فسوتشي مدينة ذات تاريخ في الصراع الروسي – التركي الطويل، وهي شاهد على انتصار روسي دموي على تركيا عام 1829، وهذه إشارة رمزية لا تخفى على أحد، خصوصاً بالنسبة إلى رجب طيب أردوغان المغرم باستخراج الرموز من التاريخ واستغلالها بفجاجة. ورسالة بوتين لأردوغان واضحة: «ها أنت تنهزم من جديد».
التقارب الروسي – التركي جاء في أعقاب هجمات مطار أتاتورك التي انهارت معها آمال الأتراك بصيف سياحيّ ينعش الاقتصاد التركي الذي يعاني منذ سنوات بعض التراجع، ومن ثمّ فيبدو أن الروس الذين لوحوا لأردوغان بجزرة السياح الروس رفعوا عصاهم وهم يطالبون تركيا بالرضوخ تارة والتفاهم تارة أخرى في ملفات لن يطول بنا الوقت حتى نعرف تفاصيلها.
السيناريو نفسه تم مع إسرائيل، إذ أعادت تركيا العلاقات في شكل مفاجئ، وحرص رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو على أن يؤكد أن حصار غزة باقٍ، واصفاً إياه بأنه «مصلحة أمنية عليا لإسرائيل، ولم أكن مستعداً للمساومة عليها». كما أكد نتانياهو أن الاتفاق يحمي أفراد الجيش الإسرائيلي من أي دعاوى قضائية جنائية ومدنية تقام ضدهم، سواء في الوقت الحالي أم في المستقبل من جانب تركيا، وأن الاتفاق يتضمن إقرار قانون في البرلمان التركي يلغي الإجراءات القانونية التي تجرى حالياً بهذا الصدد. وإلى جانب ذلك تعهدت تركيا بمنع أي نشاط من حركة «حماس» ضد إسرائيل من الأراضي التركية، ومنع جمع الأموال للحركة، وتقديم مساعدات في إعادة الأسرى الإسرائيليين، ومساعدة إسرائيل في الانضمام إلى كل المنظمات التي تحمل تركيا عضويتها، وسحبت تركيا – بناء على هذا الشرط – اعتراضها على فتح مكتب لإسرائيل في حلف الناتو.
باختصار، باع أردوغان في لحظة كل عنترياته حول القضية الفلسطينية، وكل التصعيد اللفظي الذي حوله إلى بطل في أعين فئات من السُذَّج وجماعات الخراب، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين بأفرعها المبثوثة في الدول العربية والإسلامية. وليست بعيدة تلك الخطبة العصماء التي رفع بها يوسف القرضاوي، مفتي «التفجيرات الانتحارية»، عقيرته قبل شهرين فقط، في مهرجان صاخب حمل اسم «شكراً تركيا»، عُقد بإسطنبول في نهاية نيسان (أبريل) 2016. وقال فيها: «ومن الذي يستطيع أن يقاوم السلطان رجب طيب أردوغان، الذي أصبح يدافع عن الأمة باسم الإسلام والقرآن والسنّة والشريعة، وهو الذي يتحدث بالوقوف أمام الوجوه الطاغية، ليقول لهم لا؟».
ولا نستطيع بالطبع أن نسأل مفتي «الإخوان المسلمين» القرضاوي عن رأيه في هذا الاتفاق، ففمه مغلق الآن، ولسانه مشلول، ولن ينبس هو أو أي من قادة الإخوان المسلمين بكلمة عن «السلطان» الذي يخلص لإسرائيل الود والمحبة ويتاجر بفلسطين أخبث تجارة، ويجعل منها مجرد ورقة يلعبها في تحولاته. بل على العكس من ذلك، سنجد بينهم من يشيد بهذه الخطوة ويباركها، ويبحث لها عن تبريرات وتخريجات تكشف عن انتهازية بغيضة لهذه الجماعة التي تكشف عن سوءاتها ومخازيها من دون أن يطرف لقادتها جفن.
التجارة الرخيصة بالقضية الفلسطينية، مع نعرة قومية فارغة وصبغة إسلامية زائفة، سمة للسياسة الإيرانية أيضاً، لكن الفارق أن إيران تمارس هذه التجارة بثبات وتصميم محدَّد الهدف مع اختلاف الوجوه التي تتصدر الساحة، سواء كان الرئيس هو خاتمي أم نجاد أم روحاني، أما النسخة التركية فهي ممهورة منذ نحو عقد من الزمان بتوقيع أردوغان وبشخصيته المضطربة المتقلبة. وكلتا الدولتين ترتهن «حماس» التي باعت نفسها لهما، وأسهمت معهما في تلك التجارة الزائفة التي لم تجرّ إلا الخيبات على القضية الفلسطينية.
إن المواقف المدروسة والمعتدلة التي تبلورها دول الخليج العربية والدول العربية المعتدلة تجاه قضايا المنطقة تتأثر سلبياً بفعل المزايدات والألعاب التي تمارسها القوى الإقليمية كتركيا وإيران، والوعي المشوه الذي تصدِّره كل منهما، ويلاقي هوى في النفوس المأزومة والمهزومة التي تنخدع بالخطاب الفارغ، ولكنها لا تلبث أن تصطدم بالواقع فتسقط من حالق، كما حدث مراراً مع أردوغان الذي يكتب بمواقفه الأخيرة فصلاً جديداً في سيرة اضطرابه. وهو لم يتورع عن ركوب دعوة «الإخوان المسلمين» سنوات، ولا يزال، حين هيأت له حساباته التي تخطئ كثيراً أن هذه المطية المطواع توشك أن تقبض على زمام السلطة في العالم العربي، قبل أن يسقط مشروعه ويسقط هو في حضن إسرائيل على النحو الذي رأينا. والغريب أن جماعة الإخوان المسلمين لا تزال تراهن عليه في خضم يأسها وخيبتها واستعدادها لفعل أي شيء من أجل أن تلملم كيانها المحطَّم.
أردوغان كان يخاطب بشار الأسد بكلمة «أخي» ثم انقلب عليه في لحظة ليصبح أعدى أعدائه، وراهن على سقوط سريع للأسد دفعه إلى احتضان الجماعات الإرهابية ودعمها بكل تهور. وأردوغان تقلبت سياساته تجاه الأكراد في شكل مرعب خلال عقد من الزمان تقريباً، إلى الدرجة التي جعلت الديبلوماسي الأميركي إريك أدلمان يقول في وثيقة رسمية، بعد إيراد مظاهر هذا التخبط: «إن سكيراً بإمكانه رسم مسار أكثر توازناً من هذا». وأردوغان هو من أطاح بأقرب المقربين إليه واحداً إثر الآخر في فورة تقلباته وجموحه وسعيه إلى أن يكون الزعيم الأوحد. وربما كان أكثر ما يحتاجه أردوغان في هذه الأيام هو وجود مستشارين ناصحين له من أمثال عبدالله غُل وأحمد داود أوغلو ليخففوا من تهوره واضطرابه وتقلبه، ولكنه ضحى بهم فيمن ضحى من الرجال، وآثر الانفراد بالرأي وتنفيذ الاستعراضات التي تجعله في بؤرة الضوء، مثلما فعل في جنازة الملاكم الأميركي المسلم محمد علي كلاي أخيراً.
والغريب أن أردوغان الذي «يزحف» نحو بوتين ونتانياهو يتعاظم وينفخ أوداجه العثمانية حين يتحدث عن مصر التي يتدخل في شؤونها بفجاجة وصفاقة، ويرفض التراجع عن دعمه للإرهاب الذي تواجهه مصر بكل حزم.
إن رجلاً كهذا، لم يكن له أن يحتل أي مكانة في العالم العربي، ما لم تكن الأوضاع العربية شديدة البؤس، وما لم يجد قوة لا ضمير لها، مثل جماعة الإخوان المسلمين، تروِّج لكل سقطاته وتصورها على أنها فتوحات كبرى. ولكن هذه الهالة بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً بعدما بات واضحاً للجميع أن أردوغان الذي كان يتحدث في مستهل أحداث ما سمي «الربيع العربي» ويبشر بسلطنته المقبلة كان مجرد ظاهرة صوتية لم تحقق إنجازاً ملموساً على صعيد السياسة الخارجية، بل إنه لا يزال يخسر كل يوم ورقة من أوراقه التي كان يلعب بها، وأسوأ ما في الأمر أن تلك الخسارات جاءت في الوقت الذي يتابع البرلمان التركي وضع اللمسات الأخيرة على التعديلات الدستورية والتي تسعى إلى تكريس أردوغان رئيساً مطلق الصلاحية. فكيف سيقود السلطان المنكسر بلاده وهو المثقل بكل تلك الهزائم؟