في الخامس عشر من فبراير 2003، خرجت المظاهرة الأكبر في تاريخ السياسة البريطانية رفضا لقرار حكومة توني بلير المشاركة في شن حرب على العراق، بذريعة امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل، الأمر الذي ثبت كذبه فيما بعد.
شارك في تلك المظاهرة -حسب المنظمين- مليونا شخص، من جميع الخلفيات والجاليات والأديان، وكانت رسالتهم الأساسية هي أن الحرب ليست حلا للعلاقة المتأزمة بين الغرب وصدام حسين، وأن الحروب عادة ما تجر الويلات على الشعوب، خاصة على المدنيين.
من بين المتحدثين الرئيسيين في تلك المظاهرة، كان جيرمي كوربين، الناشط اليساري في حملات دعم فلسطين ورفض الحرب، الذي سيصبح في العام 2016 زعيما للمعارضة البريطانية وحزب العمال. وفي خطابه، قال كوربين: “لا عدالة في أي حرب.. إنني اشعر باشمئزاز عميق لقيام رئيس وزراء بريطانيا باستخدام أساليب من القرون الوسطى وإرسال شباب وشابات بريطانيين ليموتوا وليقتلوا المدنيين العراقيين.. لقد كانت هجمات11 سبتمبر حدثا مروعا، ولكن قتل 8000 أفغاني لم يعد شخصا واحدا من ضحايا مركز التجارة العالمي، كما أن قتل الآلاف في العراق لن يجعل الأمور أفضل”.
لم يستجب توني بلير لأصوات ومطالب المتظاهرين، بل أكمل في طريقه للحرب، ونفذ وعده/ الفضيحة الذي عرفناه بعد سنوات طويلة من الحرب، حيث نشرت وثيقة سرية أرسلت من بلير لجورج بوش في يوليو 2002، قال فيها رئيس الحكومة البريطانية آنذاك: “سأكون معك مهما كان الأمر”.
بعد ثلاثة عشر عاما من المظاهرات الكبرى التي شهدتها لندن، صدر تقرير لجنة التحقيق في حرب العراق، التي ترأسها السير جون شيلكوت واستمر عملها لسبع سنوات، وجاء هذا التقرير ليؤكد ما قالته المظاهرات، وليثبت وقوع ما حذر منه دعاة وقف الحرب، وليقول إن النضال الشعبي الذي قاده نشطاء حقيقيون مناضلون لأجل القيم الإنسانية كان أكثر حكمة من النخب السياسية التي صوتت للذهاب للحرب، وساهمت بخلق كل هذه الويلات والخسارات التي مني بها الإنسان في العراق بسبب الحرب، وليعلن أن جيرمي كوربين -ذلك الناشط القادم من هامش السياسة البريطانية إلى مركزها- كان محقا، فيما كان بلير ومؤيديه خاطئين.
ولا يزال تقدير أهمية التقرير ونتائجه وتداعياته المحتملة مبكرا؛ لأنه تقرير طويل بعدد كلمات يزيد عن 2.6 مليون كلمة، وهو ما يحتاج إلى بحث طويل من قبل المهتمين والباحثين، ولكن القراءة الأولية لأهم نتائجه قد توصلنا إلى الاستنتاجات التالية:
أولا: أدت النتائج الأولى للتقرير إلى تلطيخ سمعة توني بلير. ويكفي الاطلاع على عناوين الصفحات الأولى للصحف البريطانية، بيمينها ويسارها، غداة صدور التقرير، لإدراك أي ضرر معنوي تسبب به على سمعة بلير. صحيح أن الأخير كان دائما محل انتقاد واتهامات بالتربح من علاقاته الدولية بعد مغادرته عمله رئيسا للوزراء، إلا أن التقرير شكل حالة إجماع إعلامي وسياسي على تحميل بلير مسؤولية “تضليل البرلمان” لأول مرة على هذا النحو.
ثانيا: يدعو بعض النواب إلى استخدام حق “الإحاطة” بالبرلمان ضد توني بلير، وهو إجراء لم يتخذ منذ أكثر من مئتي سنة في بريطانيا، حيث استخدم لآخر مرة في العام 1806، وفي حال تم ذلك، وإن كان مستبعدا، فإن بلير قد يحرم من مسمى رئيس وزراء سابق. فيما يدعو نواب آخرون إلى معاقبته ومنعه من استلام أي عمل رسمي مستقبلا.
ثالثا: يمكن للمحامين أو الحقوقيين أن يستندوا إلى نتائج التقرير لرفع قضايا لمصلحة أهالي ضحايا الحرب، من بريطانيين وعراقيين، ضد بلير، لمطالبته بتحمل التعويضات والعقوبات نتيجة لاتخاذه قرارا غير مبرر بالحرب.
رابعا: سيصبح من الصعب في المديين القريب والمتوسط على أي رئيس حكومة بريطانية اتخاذ قرار بالحرب خارج المملكة المتحدة، وسيفكر أي عضو في البرلمان ألف مرة قبل أن يصوت لصالح مشاركة بلاده في حروب خارجية.
وعلى أهمية الاستنتاجات المذكورة آنفا، إلا أن الاستنتاج الرئيسي من تقرير اللجنة هو أن النضال الشعبي للقضايا العادلة يمتلك من الحكمة أكثر بكثير من سياسات النخب التقليدية، وأن هذا النضال حتى وإن فشل في لحظة تاريخية من تحقيق أهدافه بتغيير سياسات الحكومات والأنظمة، إلا أنه قد يحقق انتصارات معنوية وواقعية في المستقبل؛ ولذلك فإن من يحملون هموم الشعوب عليهم أن يتحلوا بالصبر والاستمرارية، فحكمة النضال الشعبي ستظهر يوما ما بكل تأكيد، حتى وإن كانت اللحظة الراهنة ليست في صالحها.