لسنا بحاجة للكثير من الدلائل والمؤشرات لنعرف مدى التنافس الاستراتيجي بين روسيا وأمريكا على مناطق النفوذ في العالم. ومن الواضح تماماً أن الأمريكيين لا يتركون منفذاً إلا ويسدونه في وجه الروس، ولا يتركون منطقة تحيط بروسيا إلا وينصبون فيها أسلحة استرتيجية.
ولولا القوة الأمريكية لما سقط الاتحاد السوفياتي الخصم التاريخي لأمريكا أصلاً، فقد استخدم الأمريكيون على مدى عقود كل الوسائل العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية كي يقضوا على السوفيات.
لكن روسيا ما لبثت أن بدأت تلتقط أنفاسها بوصول فلاديمير بوتين إلى السلطة، فراحت ترمم قوتها العسكرية من جديد لمواجهة الجبروت الأمريكي. وقد شاهدنا كيف غزت روسيا جمهورية جورجيا قبل سنوات، واقتطعت جزءاً منها رداً على المحاولات الغربية تطويق روسيا عبر الجمهوريات السوفياتية السابقة.
ولا ننسى كيف غزت روسيا جزيرة القرم قبل فترة، وضمتها إلى مناطق نفوذها وسط شجب وتنديد غربي واسع دفع أمريكا وحلفاءها الغربيين إلى فرض عقوبات اقتصادية صارمة على الدب الروسي. وفي أوكرانيا أيضاً قامت روسيا بتقسيم البلاد، واقتطعت جزءاً منها عندما شعرت بأن الغرب يحاول تطويقها بضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي.
ولا ننسى قيام أمريكا بنصب صورايخ استراتيجية في بعض دول أوروبا الشرقية السابقة لتهديد روسيا، الأمر الذي جعل الروس يعبرون عن مخاوفهم الكبرى من التمدد الأمريكي على حدودهم وتطويقهم عسكرياً بحراً وبراً وجواً. وقد عبر الرئيس الروسي في الأيام الماضية عن قلق روسي كبيرعقب إعلان الأمريكيين في قمة حلف الناتو الأخيرة في بولنده عن نصب صواريخ أمريكية في كوريا الجنوبية. وقد حذر الرئيس الروسي من أن الخطوة الأمريكية تعرض الاستقرار العالمي للخطر. وهذا تحذير روسي لا يمكن الاستهانة به وبمدلولاته.
ولعل التقارب الروسي الصيني الإيراني في السنوات الماضية رد واضح على المحاولات الأمريكية تضييق الخناق على الصين وروسيا وإيران في آن معاً. ورغم الخلاف والتنافس التاريخي بين روسيا والصين، إلا أن الخطر الأمريكي على البلدين جعلهما يتحدان في وجه الاخطبوط الأمريكي. وقد شاهدنا كيف استخدم الروس والصينيون الفيتو في مجلس الأمن أكثر من مرة لمواجهة التدخل الأمريكي المحتمل في سوريا. إن الروس والصينيين يدركون أن أمريكا قد تستهدف الدولتين من خلال الفوضى والحروب الأهلية مما سيؤدي في النهاية إلى تفتنيت القوتين العظميين. ولا شك أن كثيرين لاحظوا ذلك التقارب الغريب بين روسيا وإيران ومحاولات الروس تزويد الإيرانيين بصواريخ بعيدة المدى مثل أس 300 وغيرها لتعزيز الحلف المناهض للتمدد الأمريكي في منطقة أوراسيا الاستراتيجية.
ولا يخفى على أحد أن روسيا تعمل بشكل حثيث على تشكل قوة دولية جديدة لإعادة التوازن إلى النظام الدولي الذي اختل بسقوط الاتحاد السوفياتي. ويتمثل المشروع الروسي ببناء قوة جديدة يطلقون عليها المشروع الأوراسي الذي يجمع بين آسيا وأوروبا. لكن بالرغم من هذا الصراع الاستراتيجي الرهيب بين روسيا وأمريكا في مناطق دولية عدة، إلا أن الروس والأمريكيين على قلب رجل واحد في سوريا. ما هو السبب يا ترى؟ إنها إسرائيل، فلا يمكن للروس والأمريكيين إلا أن يوحدوا الجهود بما يخدم إسرائيل في منطقة ذات أهمية قصوى بالنسبة للإسرائيليين.
لاحظوا كيف يتصارع الروس والأمريكيون في معظم مناطق العالم الاستراتيجية، بينما ينسقون الجهود، ويتشاورون في كل شاردة وواردة فيما يخص الوضع السوري، مما جعل البعض يعلق قائلاً: من سوء حظ السوريين أن الروس والأمريكيين والإسرائيليين متحالفون في سوريا، مما يخدم النظام، ويعرقل تقدم معارضيه. ولو لم تكن أمريكا راضية عن الدور الروسي في سوريا لاكتفت بتزويد المعارضة السورية ببضعة صواريخ مضادة للطائرات محمولة على الكتف كما فعلت من قبل في أفغانستان، فدمرت هيبة روسيا وأغرقتها في الوحل السوري كما أغرقت السوفيات سابقاً في الوحل الأفغاني، حيث تمكن المجاهدون الأفغان وقتها من تمريغ أنف السوفيات بالتراب، ومن ثم طردهم شر طردة من البلد.
لكن الوضع مختلف في سوريا رغم كل الخلافات الأمريكية الروسية على مناطق النفوذ الأخرى في العالم. ولولا المصلحة الإسرائيلية لما كان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يحج إلى موسكو بين شهر وآخر لتنسيق المواقف مع الروس حيال القضية السورية ذات الأهمية الاستراتيجية بالنسبة لإسرائيل. ولو لم تكن إسرائيل جارة سوريا، لما رأينا هذا التوافق الأمريكي الروسي في سوريا، ولما سمعنا عن مناورات استراتيجية الأولى من نوعها بين الإسرائيليين والروس انطلاقاً من الأراضي السورية وسط ترحيب أمريكي.
لم يكن لأمريكا أبداً أن تقبل بدخول الروس إلى المياه الدافئة، وتهديد مصالحها في واحدة من أهم المناطق الاستراتيجية في العالم. لقد مسك الروس أمريكا في سوريا من اليد التي تؤلمها، فقد ضربوا عصفورين بحجر واحد، من جهة خدموا الحليف المشترك لأمريكا وروسيا في المنطقة ألا وهي إسرائيل، ومن جهة أخرى حصلوا على موطئ قدم استراتيجي في المنطق برضا أمريكي.
لكن هذا لا ينفي أبداً أن الصراع سيستمر في أماكن أخرى بين الروس والأمريكيين، وربما ينتهي بحروب لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، خاصة وأن الروس باتوا يمتلكون أسلحة استراتيجية تهدد الأمريكيين في كل مناطق العالم.