شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

ليلة من أجل الديمقراطية في تركيا!

ليلة من أجل الديمقراطية في تركيا!
كثيرون كانوا ينظرون لتألق التجربة الديمقراطية التركية بعيون غير ديمقراطية، وهم يتوزعون ما بين قوى داخلية وخارجية

كثيرون كانوا ينظرون لتألق التجربة الديمقراطية التركية بعيون غير ديمقراطية، وهم يتوزعون ما بين قوى داخلية وخارجية، ليست بالضرورة تتقاسم نفس القناعات الفكرية والاختيارات الإيديولوجية، ولكنها جميعا ملة واحدة في طلب وضع حد لتجربة حزب العدالة والتنمية بقيادة زعيمه رجب طيب أردوغان في حكم الدولة التركية.

ولا شك أن هؤلاء يشعرون الآن بخيبة كبيرة وهو يتابعون مباشرة على الشاشات ومواقع التواصل المختلفة كيف تتساقط، واحدة بعد الأخرى، أوراق المحاولة الانقلابية الفاشلة، التي طربت لها قلوبهم وسعدت بها خواطرهم، بعدما عجزت عناصرها على وضع يدها على رموز الدولة التركية، ممثلا في رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس البرلمان، بالإضافة إلى وزراء الخارجية والدفاع والأمن، الذين كان الجميع يتابع تصريحاتهم المنظمة والمتسلسلة، مما يعني أن يد الانقلابيين لم تطل أي واحد منهم، وأنهم يتواصلون فيما بينهم وينسقون بطريقة جيدة.

ومن دون الوقوف عند الثغرة الأمنية الكبيرة التي قد تكون وراء عجز السلطات التركية على التفطن إلى هذه العملية الانقلابية الكبيرة قبل وقوعها، فإن عين المراقب لا يمكن أن تخطئ عدم تمكن الجهة الانقلابية من وضع يدها على أي واحد من رموز الدولة هؤلاء، وتتساءل على الطريقة الأمنية التي حمت بها القيادات السياسية التركية ذاتها.

إن من المثير للانتباه هو أن كل السياسيين الأتراك، خاصة المستهدفين من قبل الانقلابيين، كانوا في مواقع آمنة، فهل هذا يعود إلى شعور مسبق بالخطورة تمت معه كل تدابير الحيطة والاحتياط، أم إلى ضعف في المعلومات الاستخباراتية عند الانقلابيين التي لم تمكنهم من الوصول إلى الرموز المستهدفين، علما أن كل عملية انقلابية لا تضع يدها على من يحكم الدولة وتقوم بتحييده وعزله، وخلعه، ستبقى عملية من دون جدوى ولا فائدة .. الخ؟

أسئلة كثيرة ستبقى مطروحة على هوية من يقف وراء هذه العملية الانقلابية الفاشلة، ومدى علم السلطات المنتخبة بها، وكيفية تأمين القيادات السياسية لنفسها بطريقة ملفتة للانتباه، إذ لم يقع أي قائد سياسي، حزبي أو حكومي، السابقين والحاليين، في قبضة الجهة العسكرية الانقلابية، نتركها للمتخصصين والباحثين في الدراسات الأمنية، حتى نوجه اهتمامنا للقضية الأساسية التي تشغل بالنا وهي: الانتصار للديمقراطية.

إن الديمقراطية قيمة بشرية مشتركة، وهي إما أن تكون بمواصفات إنسانية كونية أو لا تكون، وإما أن نكون ديمقراطيين أو لا نكون، إما أن نقبل الديمقراطية حتى لو جاءت نتائجها على غير ما تهفو إليه عواطفنا، أو تنشده عقولنا، أو نعلن صراحة ومن دون أدنى زيف أو نفاق أننا لسنا ديمقراطيين !

أعرف أن الكثيرين ممن قضوا ليلة الجمعة سهرا لم يكن كل همهم الديمقراطية، فقد كان بعضهم، ولا شك، ينتظر بشغف اللحظة التي يتم فيها تعليق السيد رجب طيب أردوغان وصحبه في مشانق الانقلاب، ومنهم، من كان كل همه هو أن يحافظ هذا الأخير وحزبه على السلطة في بلده بأي ثمن، وبأي شكل، وبأي وسيلة، المهم بالنسبة لهؤلاء هو المحافظة على السلطة أولا وأخيرا.

هؤلاء وأولئك، يعبرون في كل مناسبة على سقطة أخلاقية وأزمة في المنهج وبؤس في الرؤية، فالديمقراطية، حتى ولو كانت نظاما سياسيا تشوبه الكثير من العيوب والسوءات، فإنه يبقى أقل الأنظمة السياسية سوءا، ليس بعده إلا القمع والاستبداد والاحتراب والاقتتال في الميادين والساحات.

فلا عجب إذن أن كل القوى المدنية التركية قد تكتلت من أجل هدف واحد وهو حماية تجربتها الديمقراطية، فسكتت كل الخلافات العميقة، والنزاعات القائمة بين مختلف مكوناتها، وتجندت في وحدة وطنية متميزة دودا على الإرادة الشعبية، وانتصارا للمؤسسات الوطنية المنتخبة.

هكذا، وعلى خلاف ما وقع في أقطار عربية شقيقة، لم تستطع الزمرة الانقلابية تضليل الناس وحشدهم لتأييده عملية اغتصابها للإرادة الشعبية، ولم تتبع وسائل الإعلام العمومية والمستقلة، باستثناء من أجبر منهم على ذلك، تحت تهديد القوة والسلاح،أهواء القوة المنقلبة، كما أن زعماء الأحزاب السياسية المعارضة، عبروا على رفضهم التام لأي مس بالعملية الديمقراطية.

لقد كان ملفتا للانتباه عدم ظهور تلك الفئة البئيسة التي أطلق عليها كذبا وبهتانا في منطقتنا العربية ب”المواطنيين الشرفاء” ورجال الشرطة “الشرفاء” الذين يصطفون إلى جانب الزمرة الانقلابية، بل رأينا شرفا أصيلا وحقيقا تجسد فعليا في الكيفية التي حمت بها الشرطة التركية مؤسساتها الوطنية ببسالة بطولية ناذرة، معززة بكثافة جماهيرية نزلت بقوة إلى الشوارع والساحات دفاعا على إرادتها وكرامتها وإنسانيتها وحقها الأصيل في اختيار من يحكمها.

وحدها جماعة السيد عبد الله كولن التي لم تعبر عن إدانتها للعملية الانقلابية، مما يعزز الشكوك في إمكانية ضلوعها في العلمية أو وقوفها وراءها تخطيطا وتوجيها وتنفيذا، ولسنا ندري فعلا هل اتهام القيادة التركية لهذه الجماعة، أو “الكيان الموازي” كما يسمونه، وليد معلومات دقيقة أم هو انتهاز الفرصة لتصفية الحسابات السياسية مع هذه الجماعة، ورغبة في الدفع بعيدا نحو عزلها داخليا وخارجيا؟

مهما يكن الأمر، فإن الثابت أن الانقلاب قد حصل، وأن نتيجته كانت الفشل الذريع، وأن جماعة كولن وقوى عربية ودولية، لا تطيق بقاء السيد أردوغان وحزبه في السلطة، وكانت ترغب أن ترى يوما تدحرجه خارج مربع الحكم بأية وسيلة، مشروعة أو غير مشروعة، ولا شك أيضا أنها هللت لمحاولة الأمس، سرا أو علنا، علما أن جماعة كولن أو القوى الغربية المعادية للتجربة التركية أكثر ذكاء من القوى العربية التي احتفلت مبكرا بنجاح العملية الانقلابية، وبدأت تتشفى في رموز الدولة التركية المنتخبة، معبرة على انحطاكها إلى أسفل درك في سلم النذالة القيمية والأخلاقية !

أجل، إن الدفاع عن الديمقراطية مسألة مبدأ، وتعتبر واجبا إنسانيا عينيا وليس كفائيا، ملقى على عاتق كل فرد إنساني، بصرف النظر عن جنسه أو لونه أو طائفته أو ملته. إنها قيمة للإنسان، يعبر بها عن رقيه وتحضره وكماله البشري، الذي من دونه يجده ذاته في مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان.

إنها الحالة الوحيدة التي يكون فيها الفرد مواطنا، حرا مستقلا، سيد قراراته، لا يترك الآخرين يتخذونها من دون مشاركته وإرادته، في تحديد من ينوب عنه في تجسيد تلك الإرادة، ويسحب ثقته فيه متى شاء، سيدا في وطنه وليس رقما في قائمة من القطيع والرعايا، التي لا تحسن إلا الخضوع والطاعة والاتباع.

من أجل كل ذلك، حبس كل الديمقراطيون الحقيقيون أنفاسهم ليلة الانقلاب، وساهموا كل من موقعه في التنديد بهذه المحاولة البائسة في اغتيال إرادة الإنسان، في هذه الرقعة الجغرافية من العالم، وكان يمكن أن تكون أي رقعة أخرى، ليس دفاعا على أردوغان، ولا عشقا في في بقاء “الإسلاميين” في السلطة، خاصة وأن الاحتمال الأكبر أن الجهة المنقلبة هي جهة “إسلامية” أيضا!.. وإنما دفاعا عن المبدأ والقيمة: الديمقراطية، كل عام والديمقراطية بالف خير.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023