لا أدرى ما المنطق الذى يدفع البعض للمقارنة بين المشهد التركي والمصري رغم اختلاف المعطيات جملة وتفصيلا، بالتأكيد ابتهج المدافعون عن الديموقراطية في مصر بانكسار الانقلاب العسكرى الأخير في تركيا بعد عدة ساعات من بدايته وأعطاهم ما حدث جرعة نفسية إيجابية بعد ما رأوه من روعة الشعب التركي واستبساله في الدفاع عن الديموقراطية والمستقبل.
الفروق بين المشهدين المصري والتركي هائلة لذلك ينبغي لفت النظر لهذه الفروق حتى يمكننا التعامل مع ما حدث ببعض الموضوعية، تجربة تركيا مع الانقلابات العسكرية تكررت عدة مرات قبل ذلك وذاق الأتراك مرارة هذه الانقلابات التي قادت بلادهم للفشل إلى أن استقر الوضع خلال الأربع عشرة سنة الماضية وأخذت تركيا تزدهر اقتصاديا انطلاقا من تطور سياسي ديموقراطي مدني نقل البلاد ومواطنيها للامام في كل المجالات.
أما مصر فلم تعرف في التاريخ الحديث سوى حركة الضباط فى 23 يوليو 1952 والتي توجت بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية واستطاعت في السنوات الأولى الحصول على تأييد قطاعات شعبية واسعة قبل أن تنتهي التجربة بنكسة يونيو 1967، وكان التحرك الأخير للجيش في مصر في 3 يوليو 2013 عقب مظاهرات 30 يونيو حيث تم عزل الرئيس محمد مرسي وتعيين رئيس المحكمة الدستورية كرئيس مؤقت للبلاد، وفي الحالتين لم يأخذ التحرك شكل الانقلاب العسكري الخشن التقليدي الذي عرفته الستينيات وعرفته تركيا خلال العقود الماضية.
عرفت تركيا الحياة الحزبية الحقيقية حيث استطاعت النخب السياسية- رغم التضييق وتكرر الانقلابات – تأسيس أحزاب ذات جذور وامتدادات شعبية فاعلة استطاعت في مجموعها الحفاظ على الحد الأدنى من الممارسة السياسية والدستورية في أحلك الأوقات وبرز دور هذه الأحزاب في رفض الانقلاب رغم كراهيتها لأردوغان ومعارضتها الشديدة له في موقف وطني تحلت فيه بالمسؤولية وفضلت المصلحة الوطنية على المصالح الشخصية والابتعاد عن فكرة النكاية بالخصم على حساب وأد الديموقراطية
أما مصر فلا توجد فيها أحزاب حقيقية بسبب التضييق وإصرار السلطة منذ 1952 على الانفراد بالساحة السياسية وتفريغها من القوى الفاعلة ورغم تجربة المنابر وتأسيس الأحزاب التي دشنها السادات إلا أنها استمرت كديكور للسلطة برعاية نظام مبارك الذي خلق معارضة سياسية مستأنسة تؤدي الدور المطلوب منها في حدود المسموح ولم تنجح التجربة الحزبية عقب ثورة يناير في تأسيس أحزاب قوية واستمر الوضع على ما كان عليه حتى الآن.
خلال السنوات الماضية خضعت كثير من مؤسسات الدولة التركية للإصلاح المتدرج الذي حررها من قبضة الدولة العميقة وأحدث بها نوع من التوازن المعقول تجلت انعكاساته في موقف هذه الأجهزة والمؤسسات من رفض الانقلاب ومساندة الشرعية والتمسك بالمسار الديموقراطي رغم خلافها مع أردوغان وحزبه المهيمن على السلطة منذ سنوات، في المقابل فمؤسسات الدولة في مصر عصًية على الإصلاح ولم يستطع أحد الاقتراب منها رغم قيام ثورة يناير التي نادت بإصلاح المؤسسات والأجهزة، بل إن المثير للدهشة أن من هذه المؤسسات والأجهزة ما هو خارج ومنفرد بقراراته عن السلطة الحالية نفسها، وهذا ما يظهر واضحا في لحظات صراعات الأجنحة والأجهزة داخل السلطة ولم يعد يمكن إخفاءه.
أما الحركة الإسلامية في تركيا فلا يمكن مقارنتها بتجربة الإسلاميين في مصر التي تميزت بضيق الأفق وفقر الخيال وقلة الخبرة السياسية والنضج الاستراتيجي والمرونة الحركية وتيبس الأفكار وغياب القيادات الملهمة التي تستطيع قراءة الواقع بطريقة صحيحة والخروج من أسر الجماعة الدينية إلى رحابة العمل السياسي والتعامل مع المجتمع كشريك وليس اعتبار كل فرد فيه مشروعا دعويا وتنظيمىا يتم جذبه للانخراط في التنظيم، تطور الحركة الإسلامية في تركيا أخرج قيادات بحجم أربكان وأردوغان وعبد الله جول وأحمد داود أوغلو وكثيرين غيرهم قدموا نموذجا لرجل الدولة الذي يمارس السياسة لأجل المصلحة العامة وفق منظومة من الكفاءة والمهنية التي تجبر الجميع على احترامه وتقديره بعيدا عن انتمائه الفكري والسياسي.
رحلة التحرر التركي من قيود الاستبداد والوصاية العسكرية بدأت قبل عقود وتوجت بالملحمة الشعبية الأخيرة التي أجهضت الانقلاب العسكري وربما تخمده للأبد، تراكم الخبرات والبناء عليها والتعلم بالممارسة وتصحيح الأخطاء والتعلم منها أمور هامة لكل دعاة الديموقراطية، فهل نعي ذلك ونتعلم من الدروس القاسية؟
