لا يزال عبد الفتاح السيسي على إصراره على احتكار لقب “مطرب الأغنية اليتيمة”. ليس ثمة شيء عنده سوى الغناء المزعج، عند إشارة مرور يتقاطع فيها موضوعان وحيدان: الحرب على الإرهاب، وعملية السلام (الإسرائيلي)، حيث يفترش هذه المساحة، كلما تعقدت معه الأمور.
في خطابه، أمس، يستدعي السيسي الموضوع الإسرائيلي، مجدّدا طرح خدماته، متماهياً تماماً مع مضامين وإشارات زيارة مبعوثه إلى الكيان الصهيوني، سامح شكري، الذي دشّن بزيارته مرحلة جديدة في التفريط، حين توجه مباشرةً إلى القدس المحتلة، معلنا، بشكل عملي، أن القدس صهيونية إسرائيلية، وليست عربية.
يتحدّث السيسي، بالطبع، منتحلاً شخصية زعيم السلام المجدّد المقتحم، على طريقة أنور السادات، وكأنه صاحب نظريات ومبادرات جريئة، فيما يعلم أنه ليس أكثر من أداةٍ يستخدمها الأميركيون والإسرائيليون، وفقا لقياساتهم الدقيقة.
في ديسمبر/ كانون الأول 2014، أعلن وزير الخارحية الأميركي، جون كيري، عن تطوير في الرؤية الغربية للحرب على الإرهاب، حيث صرح، لأول مرة، بما كان مكتوماً في قدور المفاوضات السرية بقوله إن دولا عربية مستعدة للتحالف مع إسرائيل ضد حركة المقاومة (حماس) وتنظيم الدولة (داعش).
جاءت تصريحات كيري أمام منتدى سابان، التابع لمعهد بروكينجز في واشنطن، وأكد فيها أن عواصم عربية أكّدت له جاهزيتها لصنع سلام مع العدو الصهيوني، “ولديها القدرة على إيجاد تحالف إقليمي ضد حماس وتنظيم الدولة وحركة أحرار الشام وجماعة بوكو حرام النيجيرية”.
وليس من قبيل المصادفات أن يكون السيسي منخرطاً في الغناء عن التسوية والسلام، في الكلية الحربية أمس، بينما يغني وزير خارجيته، في اللحظة نفسها، عن الحرب على داعش، بعد لقائه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري.
وقد علمتنا الأيام أن عقيرة السيسي لا ترتفع بغناء الألحان الإسرائيلية الأميركية، إلا إذا كان مأزوماً في الداخل والخارج، إذ يتحدّث بينما الدولار يواصل انتهاك الجنيه المصري، معلنا ملامسة سقف الاثني عشر جنيهاً للمرة الأولى. وفي الخارج، يبدو عارياً من أي غطاء، بعد أن ضبط نظامه متلبسا في الدعم المطلق لمحاولة الانقلاب التركية، فضلاً عن أن أياماً تفصله عن الذكرى الأولى لأكبر عملية “نصب قومي” تمت على المصريين في العصر الحديث، وهي تفريعة قناة السويس التي جرفت مدّخرات المصريين، تحت وابلٍ من وعود الثراء، ليستيقظوا على كارثة اقتصادية.
قال السيسي، في خطابه، إن أحداً ليس كبيرا على المحاسبة، إذا أخطأ، حتى لو كان هو شخصياً.. حسنا، في مثل هذا الوقت من العام الماضي، أخطأ السيسي، بل أجرم، حين مارس، هو ورجاله، كذباً وخداعاً، بالإعلان عن أن القناة الجديدة (التفريعة) ستضيف إلى موارد مصر أكثر من مائة مليار دولار سنويا، وأنها، قبل أن تدخل الخدمة، غطت كل تكاليفها، وأنهم سيشرعون في حفر “قناة ثالثة”، قبل أن تنتهي احتفالية افتتاح قناتهم الجديدة.
من يحاسب السيسي على هذا السيل من الأكاذيب المتدفقة منه شخصياً، ومن أركان نظامه، منذ اعتلى الحكم، مستفيداً من جريمته المسلحة قبل ثلاث سنوات؟
من يحاسبه على جرائم أخرى، من التفريط في الأرض، إلى قتل البشر والزرع، وإضرام النار في نسيج المجتمع، ليتخاصم مع نفسه، طائفياً، وطبقياً، وإنسانياً؟
من يحاسبه على تحويل مصر إلى دولةٍ أصابها الخلل العقلي، فتجاوزت حدود النكتة، واخترقت حاجز المسخرة، ضحك عليها العالم حتى البكاء؟
من يحاسب أحداً في دولةٍ سلكت مثل عصابة ضد رئيس جهاز المحاسبات فيها، وعزلته بالقوة ومارست أحطّ أنواع التنكيل به؟
كيف يتحدثون عن محاسبةٍ في دولةٍ دشن جنرالها زمنه المعوج، بوعد صريح للضباط بأن من يطلق الرصاص على مواطنٍ يعارض النظام، لن يخضع للعقاب؟
هل حوسب جنرالات “كفتة الإيدز”، أو ضباط المحارق الجماعية من “رابعة” إلى سيارة الترحيلات إلى سيناء، إلى العتبة؟