روسيا وتركيا: صراع قديم!
يفصل تركيا عن روسيا فقط البحر الأسود، مما جعل موقعها الجغرافي يجعلها تقف دائمًا حجر عثرة في وجه الطموح الروسي! وتاريخ العلاقة بين البلدين مليء بالحروب التي كان انتصار الروس فيها يعني نجاحًا إمبراطوريًّا، وخسارتهم تعني تراجعًا عسكريًّا!
الموقع الجغرافي لتركيا جعلها مهمة للغاية بالنسبة للغرب؛ الذي يراها كـ«دولة حاجز» في وجه التمدد الروسي، الراغب منذ القدم، منذ روسيا القيصرية، في التمدد عبر المضايق التركية «البوسفور والدردنيل» نحو المياه الدافئة «البحر المتوسط»، والذي يمثل عنق الزجاجة بالنسبة لروسيا نحو العالم الخارجي.
تزامن صعود بويتن وأردوغان
ومع انتهاء عقد التسعينات ومجيء بوتين للحكم، ومع تأكيد كل التقارير القادمة من روسيا رغبة بوتين في إعادة الأمجاد الروسية، فقد رأت الإدارة الأمريكية، التي كانت تحوي أحد أكثر الأشخاص تخصصًا في الشأن الروسي، كونداليزا رايس، أن وجود تركيا قوية مهم جدًّا للغرب، للوقوف في وجه روسيا مرة أخرى.
وبالفعل فقد تزامن مع صعود بوتين في روسيا صعود لاعب آخر مهم، سيكون له أكبر الأثر في الساحة الإقليمية والدولية في تركيا: أردوغان.
محاولة توريط تركيا في سوريا
الراجح أن الولايات المتحدة تدخلت في تركيا، بنفوذها المعلوم لدى الجيش التركي، لفك الحظر عن حزب العدالة والتنمية، ومنع أي انقلاب عسكري على أردوغان طيلة 15 عامًا. وبالفعل استطاع أردوغان ورفاقه النهوض بتركيا، ونقل اقتصادها إلى المركز السادس أوروبيًّا، والسادس عشر عالميًّا!
لكن قوة تركيا تعدت الدور المرسوم لها بالوقوف في وجه روسيا، وصارت لاعبًا إقليميًّا في كل ملفات المنطقة، مما أقلق واشنطن، ودفعها للتفكير في جرها للمستنقع الذي وقعت فيه كل خصوم أمريكا على مدار خمس سنوات، المستنقع السوري!
فشلت محاولات جر الأتراك إلى معارك عين العرب كوباني، رغم الضغوط الداخلية من الأكراد، ولا الاتهامات الرسمية الأمريكية التي بلغت حد اتهام جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي لتركيا بدعم الإرهاب! لكن تركيا واجهت الضغوط بقوة ورفضت الاتهامات الأمريكية، واضطر بايدن إلى الاعتذار.
تدخل روسيا عسكريًّا في سوريا استفز تركيا
وحتى أواخر العام الماضي، كانت روسيا تمثل استثناءً لكل خصوم أمريكا الذين تورطوا في المستنقع السوري.
وكما توقعنا في مقال «أمريكا ترقص التانجو على دماء السوريين»، فقد دفعت أمريكا روسيا إلى الانخراط في الحرب السورية بعددها وعتادها، وأعطت الضوء الأخضر لذلك.
كانت الأهداف الروسية من الغزوة الروسية عديدة، منها تطويق الأتراك، والضغط عليهم، لمواجهة ورقة الضغط التركية التاريخية في وجه روسيا «المضايق».
وبالفعل فقد شكل التدخل الروسي استفزازًا كبيرًا لتركيا، ليس لاستهداف روسيا قوى المعارضة السنية التي تدعمها تركيا في سوريا فحسب، بل لأن روسيا قامت بنشر صواريخ إس 400 في سوريا، وهي صواريخ الدفاع الجوي الأكثر تطورًا في العالم «اعترضت واشنطن على تزويد روسيا لإيران في وقت سابق بصواريخ إس 300 فقط!».
وتساءل الأتراك، ومعهم حق؛ إذا كان الهدف الروسي حقًّا هو مواجهة تنظيم الدولة، فهل يملك هذا التنظيم أي طائرات تستدعي نشر الصواريخ الروسية؟ وحيث إن إسرائيل حصلت على تطمينات روسية مبكرة قبل الغزو الروسي، فقد فهم الأتراك أن الصواريخ الروسية موجهة إلى سلاحهم الجوي بالأساس، خاصةً مع سحب أمريكا صواريخ باتريوت من تركيا في وقتٍ سابق!
إسقاط تركيا السوخوي الروسية
وقد شكل حادث قيام طائرات إف 16 التركية، أمريكية الصنع، بإسقاط قاذفة روسية من نوع سوخوي 24، «القاذفة لا تشتبك في الجو، عكس سوخوي 30 المقاتلة، مما جعلها صيدًا سهلًا» نقطة تحول في تاريخ الصراع في المنطقة!
فقد بدا أن الحلم الأمريكي بتوريط تركيا قد بدأ يتحقق، وأن حربًا باردة أو ساخنة في طريقها للاندلاع بين البلدين، وهي حرب تصب في صالح أمريكا والغرب بلا شك!
ورغم أن الغرب اعتبر أن إسقاط السوخوي الروسية أول رد حقيقي على احتلال بوتين للقرم في 27 فبراير 2014، إلا أنه بدا مائعًا في دعمه لتركيا في وجه روسيا! وأحست أنقرة أن أمريكا دفعتها دفعًا للصدام مع موسكو، الأمر الذي جلب عليها الويلات، دون دعم حقيقي.
فلم تمنع أمريكا روسيا من استهداف جبل الأكراد، وجبل التركمان في سوريا، ولا من استهداف مناطق السنة، وفضائل المعارضة المسلحة فيها بشراسة، ولا منعتها من دعم الأكراد! بل على العكس؛ ازداد الدعم العسكري والمادي للأكراد، الذين صاروا يتلقون الدعم من كل جهة: الأمريكان والروس والإسرائيليين والنظام السوري!
وبمعاونة الأمريكان استطاع الأكراد التقدم أكثر قرب الحدود التركية، مهددين تركيا بالتفتت، في حال انضمام أكرادها إلى أكراد سوريا والعراق! وتخطى الأكراد -بمعونة أمريكا أيضًا- الخط الأحمر التركي، الذي كان يرفض رفضًا قاطعًا عبور الأكراد إلى غرب نهر الفرات! وأرسلت كندا وألمانيا -بإيعاز من أمريكا- قوات على الأرض لمساعدة الأكراد شرق سوريا، وهم يرتدون زي وحدات حماية الشعب الكردية، في رسالة بالغة الاستفزاز لأنقرة!
الخلاصة
مع وقوع الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، وتأكد الرئيس أردوغان أن أمريكا ضالعة في هذا الانقلاب، وبعد اعتقال الطيارين اللذين أسقطا السوخوي الروسية نهاية العام الماضي لاتهامهما بالمشاركة في العملية الانقلابية «بعض التقارير تحدثت أنهما تابعان لكولن، وتقارير أخرى تحدثت عن أنهما CIA»، فقد فهمت تركيا أن أمريكا كانت وراء إسقاط الطائرة الروسية لتوريطها مع بوتين، وأن الغرب لا يقدم الدعم الكافي فقط، بل يقف وراء الزلزال الذي ضرب تركيا، وكاد أن ينهي حياة أردوغان وحياة حزبه السياسية!
الآن، ومع اعتذار أردوغان لبوتين، حتى قبل الانقلاب، ومع موقع تركيا الجغرافي الذي تحدثنا عنه أول المقال، فإن تركيا ليس أمامها إلا التوجه إلى روسيا، بعد التآمر الغربي! وهذا التوجه ليس فقط عقابًا للغرب، الذي يعتبر خسارة تركيا خسارة تاريخية وإستراتيجية، بل لأن روسيا تملك من الأوراق ما يجذب اهتمام تركيا، وخاصةً ورقة الأكراد، الذين يئست أنقرة أن تتوقف أمريكا عن دعمهم.
لقد فهمت روسيا الفرصة التي بين يديها بتوتر علاقة تركيا بالغرب، فسارعت موسكو، رغم الخلافات، إلى رفض الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، حتى قبل أن يفعل الغرب، ودعمت بشكل كامل الإجراءات التركية المضادة، في الوقت الذي كان ينتقدها الغرب، وأكدت المتحدثة باسم الخارجية الروسية أن الانقلاب كان سيهدد السلم الداخلي في تركيا والمنطقة. وألمحت المتحدثة ماريا زاخاروفا، باصطياد واضح في الماء العكر، أن الانقلاب حدث بعد أسبوع من قمة حلف النيتو في وارسو.
ومع اللقاء المرتقب بين بوتين وأردوغان أوائل أغسطس المقبل، فإن تركيا ستلقن الغرب درسًا قاسيًا، حيث ستصبح ورقة الطاقة التي تحتاجها أوروبا حكرًا بين روسيا وتركيا!
فروسيا تمد أوروبا بحوالي 40% من احتياجاتها من الغاز، والبديل القادم من الشرق «إيران والعراق وغيره» لا يمر إلا عبر تركيا، التي كان يعتبرها الغرب حليفًا! هذا غير ملفات السياحة، والتبادل التجاري بين روسيا وتركيا البالغ 40 مليار دولار، بلغها قبل نشوب الأزمة بينهما، والرغبة المشتركة في أن يصل إلى 100 مليار دولار قريبًا!
***
من ناحيتها، أدركت واشنطن خطأ السلوك الذي انتهجته في معالجة الأزمة مع تركيا، وخاصةً بعد نشر ويكليكس رسائل مسربة لأردوغان بعد فشل الانقلاب مباشرة، وقد كانت حركة مفضوحة جدًّا، ثم وصف نيويورك تايمز لأنصار أردوغان «بالخرفان»، وهو مصطلح تم استخدامه أيضًا على نطاق واسع في مصر لإسقاط الرئيس مرسي بانقلاب مشابه في 2013، ثم الهجمة العنترية لجون كيري التي هدد فيها باستبعاد تركيا من النيتو، وهو كلام تراجعت أمريكا عنه سريعًا، لما فيه من سخف!
حاول الأمريكان معالجة الأمر؛ فقام أوباما بنفي الاتهامات التي وجهت لبلاده بدعم انقلاب تركيا، رغم أن أحدًا لم يكن قد اتهم واشنطن بعد بصورة رسمية!
ثم صارت الاتهامات علنية بعد أن وجه الادعاء العام التركي اتهامات لجماعة فتح الله كولن بالعمل بإيعاز من أمريكا ومن الـCIA نفسها!
فهل تسستغل تركيا ذلك فقط للضغط على أمريكا لتسليم كولن ووقف دعمها للأكراد، أم أن هذا الانقلاب قد أحدث نوعًا من القطيعة «أو انعدام الثقة على أقل تقدير» بين تركيا والغرب؟