كانت تلك عبارة أطلقها أحد الضباط الانقلابيين خلال محادثة في مجموعة الـ”واتساب” التي شكّلت غرفة الاتصال ما بين الضبّاط الأتراك الذين تولّوا المهمة التنفيذية لفرض إجراءات الانقلاب على الأرض، وقد بدت هذه العبارة في هذا السياق تحديدا؛ مكتنزة بالمفارقة الدالّة على وجه آخر للصراع، ما بين أدوات الاتصال الحديثة، وأدوات الاتصال القديمة.
ولمزيد من المفارقة، فإن تلك الحديثة هي الوجه الأبرز للحضارة الاستعمارية الغالبة، والتي يبدو أن لها دورا ما في المحاولة الانقلابية الأخيرة في تركيا، بينما كانت أداة الاتصال القديمة، والتي هي المسجد، روح الشرق كلّه، ووجهه أيضا، والذي حكمته تركيا، عبر الدولة العثمانية قرونا طويلة.
وكانت هذه الدولة، لإدراكها هذا المعنى، قد حوّلت كنيسة “آيا صوفيا” إلى جامع للمسلمين الذين لم يكن لهم مسجد بعد في القسطنطينية، فأيّ معنى يمكن لمساجد هذه المدينة أن تستبطنه وهي تساهم في إسقاط انقلاب له جذور ممتدة في عواصم الغرب القديمة في أوروبا، وفي عاصمته الجديدة “واشنطن”؟!
ألا تبدو هذه في ذاتها لحظة فارقة كذلك؟ أو رمزا على اللحظة الفارقة التي تمثّلت في إسقاط الانقلاب، والذي يبدو أنه ولأهميته التاريخية، قد تجسّد في عدد من الرموز، كان منها المسجد في وجه “واتساب”، فإذا كان الضباط الانقلابيون قد اختاروا “واتساب” وسيلة للتشبيك والاتصال، فإن الجماهير اختارت المساجد وسيلة مضادة، للاتصال والتعبئة والحشد، ربطت بها تركيا كلها.
فوق ذلك، تصدّى التكبير للرصاص، ولقذائف الدبابات والطائرات، وبدا وكأنه أقوى من أصوات الطائرات التي كانت تخترق حاجز الصوت لترويع الجماهير. وهنا ثمّة مفارقة أخرى، فأردوغان قبل 18 عاما كان قد ألقى قصيدة قال فيها: “المآذن رماحنا.. والقباب خوذاتنا.. والجوامع ثكناتنا.. والمؤمنون جنودنا..”.
سجن أردوغان حينها بسبب هذه القصيدة، وقيل بعدها إن الرجل تجاوز هذه الشعارات، لتثبت المساجد، بعد عقدين تقريبا، أنها أكبر من الشعار، وأسرع من “واتساب”، وأقوى من الطائرة المقاتلة، فحين سماع عبارة الضابط الانقلابي تلك، يخيّل لنا وكأن المساجد تماما، كما في قصيدة أردوغان، ثكنات تضج بالجنود المؤمنين، المدججين بالرماح والخوذ.
لا تقاتل المساجد، والمؤمنون الذين فيها، دفاعا عن سلطة سياسية، إذ أضعف ما يكون المسجد، حينما تهيمن عليه السلطة السياسة، لأنها تسلب منه روحه، فيفقد موقعه الذي هو روح الجماهير، ويخسر مكانته التي هي قلعة لحماية المجتمع من تغول الدولة، وانحراف السلطة السياسية.
ومن ثم فإن دور المسجد في إسقاط الانقلاب دلّ من جهة، على عودته روحا للجماهير وقلعة للمجتمع، من بعد عقود التغريب والتحديث القهريين، ومن جهة أخرى كان يمثّل المجتمع في الدفاع عن نفسه وعن خياراته، لا عن سلطة سياسية بعينها.
يبقى بالإضافة إلى ذلك، أمران؛ الأول أن المساجد عبّرت عن الإسلام بما هو مشروع تحرري مفتوح، فرمز العبادة الأشهر في الإسلام، والذي هو محلّ العبادة الأكثر صراحة في الخضوع لله، بات رمزا لحرية الإنسان، فالعبادة لله شرط للتحرر من العبادة لكل ما سواه.
وعلى هذا تنهض مهمة الابتعاث، كما عبّر عنها ربعي بن عامر: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”. ويمكن أن نضع مساهمة المساجد الصادقة والناجحة، في إسقاط الانقلاب التركي، في مواجهة العديد من أصحاب خطاب الحرية، من قوى وشخصيات، سقطت في الاختبار التركي، كما سقطت من قبل في الانقلاب المصري.
والثاني؛ أن مواجهة المساجد، لم تكن مع القوى العلمانية التقليدية في تركيا، حتى لو كانت مع انقلاب قامت به قطاعات من الجيش الذي اعتُبِر تاريخيّا حامي العلمانية الكمالية، وحتى وإن اتصّل بشكل أو بآخر بالقوى الغربية، كما هو واضح حتى الآن.
ولكن المساجد واجهت هذه المرة، جماعة دينية، الأمر الذي يعني أن ما تمثلّه المساجد قد واجه ما تمثّله تلك الجماعة، أي ما يمثّله المسجد من صراحة ووضوح وعلو وارتفاع، كان في مواجهة ما تمثّله تلك الجماعة من مخاتلة وغموض وتقية وخفاء، تقوم بدورها بالهيمنة على الدين بما يفرّغه مجددا من وظيفته التحررية، ومن موقعه في حماية الناس والجماهير.