أمتنا تمر بظروف عصيبة في هذه المرحلة من تاريخها، وهذا ليس بجديد، ولن تكون هذه الظروف الأخيرة، فالصراع بين الحق والباطل بدأ منذ بداية الخليقة وسيستمر إلى يوم الدين، وتاريخنا ذاخر بمواقف عديدة في هذه السياق، ولكن المهم كيف نستفيد من هذه النماذج في حياتنا المعاصرة، وكيف نوظف الطاقات والقدرات والإمكانيات في التصدي لمواجهة العقبات والتحديات.
أقول هذا الكلام لما نشاهده اليوم من عدم توحّد الأمة على كلمة سواء، بالشكل المطلوب الذي دعانا الله–عز وجل-إليه في قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا) (103 من آل عمران)، فالأمر جلل وخطير يحتاج منّا إلى الوقوف صفًا واحدًا لمواجهة التحديات التي تواجه الأمة وهي كثيرة، وقد كشفت المحاولة الانقلابية الأخيرة التي حدثت في تركيا، النقاب عن حجم هذا التحدي، والمؤامرات التي تحاك للأمة بشكل عام، داخليًا وخارجيًا، ومن بني جلدتنا.
وعلينا في أوقات الأزمات السعي بكل ما نستطيع إلى ترك الخلافات الجزئية جانبًا، وتنحية المواقف الشخصية من طريقنا، ويجب أن تتصدر الاهتمامات الكبرى والمصالح العامة، فلا حزبية ضيقة، ولا مصلحة فئوية أو شخصية تعلو فوق المصلحة العامة، هذا ما علمنا ديننا وشريعتنا. فالحفاظ على أمتنا، وحماية جنباتها، ومنع المجرمين عن إجرامهم، والدفاع عن المظلومين والمستضعفين في كل مكان هو مطلب شرعي، وواجب وطني، بل هو مقصد من مقاصد الشريعة الغراء.
إن أمتنا تمر بمرحلة دقيقة من مراحلها، حيث تجتمع عليها الأمم، ويستخدمون كل الوسائل المشروعة، وغير المشروعة، لإضعافها والقضاء عليها. وهذا يحتاج منّا إلى الاصطفاف المخلص لحمايتها وحفظها، إذ إن في حفظها حفظ للإسلام ولكرامة الإنسان.
طبيعة الأزمات والتحديات:
تحتاج هذه المرحلة إلى تأمين جبهاتنا الداخلية، سواء أكانت الأسرية منها أو المحلية المجتمعية، أو على المستوى الإقليمي والدولي، فيتوحد أصحاب المبادئ على قلب رجل واحد، ويتمسكوا بنصرة قضاياهم بكل الوسائل المشروعة والمتاحة. وهذا يدعونا إلى معرفة طبيعة الأزمات والتحديات التي تمر بها الأمة في هذه المرحلة:
أولاً: عدم معرفة طبيعة المرحلة التي نعيشها، والفهم الضيّق لطبيعة الصراع، وخصوصًا ممن يُرجى منهم الخير، ومأمول منهم التصدي لكل المخاطر الداخلية والخارجية، فلا شك أننا نعيش حالة التيه، أو بمعنى آخر يغيب عن البعض أننا أمام تحديات جسام، أولها استهداف أعداء الأمة لثوابتها، واستخدام كل الوسائل لتحقيق ذلك، بل وصل الأمر لمساهمة بعض من بني جلدتنا في تحقيق أهداف أعداء الأمة، وهذا بطبيعة الحال يمثل خطورة شديدة في تغييب وعي البسطاء في الأمة.
ثانيًا: غياب الرؤية عن المتصدرين للمشهد والحاملين لواءه، فأي انهيار لأي تجربة سواء كانت فكرية أو سياسية أو اقتصادية، أو غيرها، يكون بسبب غياب الرؤية والأهداف المرحلية ومتوسطة المدى وبعيدة المدى، التي تسمى استراتيجية، لأن استراتيجيات الدول هي التي تحدد خطواتها وبرامج عملها وبوصلة علاقاتها الخارجية، وترسم لها الطريق الذي تسلكه لبناء نهضتها، وهي مسألة لا تتغير بين يوم وليلة أو شهر وآخر، ولا بين عام وآخر، وإنما تحكمها مسارات الدول لسنوات طويلة تضمن تحقيق الإنجاز بالتراكم على مدى طويل من خلال السعي في الطريق الذي رسمته، والطاقات التي تبذل فيه وتحولها إلى واقع عملي حقيقي لخدمة الأمة في جميع مساراتها.
ثالثًا: الخلافات الطاحنة بين أبناء الأمة، سواء في القطر الواحد، أو الجماعة الواحدة، وانصرافهم عن القضايا الكلية إلى الجزئية، واختلافهم في تقدير المصلحة العامة، فهناك من يذهب إلى أننا لا يمكن أن نجتمع على كلمة سواء إلا إذا سرنا على طريقته هو وأسلوبه في معالجة المشكلات، وهناك صنف آخر يرى أنه لا أمل أصلا في التوحّد حول الأهداف الكبرى لإنقاذ الأمة.
أقول لهؤلاء وتلك المشكلة ليست في الاختلاف، فهو سنة كونية، كما قال تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) (118 من سورة هود)، ولكن الأهم كيف نختلف فيما بيننا، وكيف نُدير هذا الاختلاف. ولا يظن أي إنسان أنه يمتلك الحقيقة الكاملة، كما قال الشافعي رحمه الله: “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.
رابعًا: سعي البعض إلى صدارة المشهد دون امتلاكالأدوات التي تؤهله لذلك، وحب الزعامة والحرص عليها، وعدم تقديم أصحاب الكفاءات في المجالات المختلفة. هذا يحدث على مستوى الدول والجماعات والمؤسسات، فالمشكلة الأساسية (كما يقول الشيخ علي طنطاوي): أن القائد منّا يربي جنودًا ولا يُخرج قيادات، حتى الذين بلغوا أرذل العمر وصاروا على حواف قبورهم كانوا أشد تمسكًا، لأنهم أصحاب السبق والخبرات والتجارب ولأنهم العارفون ببواطن الأمور ومخبّآت النفوس ودواخلها ولأنهم هم البناة وغيرهم ما أكلوا إلا من كدهم وسهرهم! ونحن في هذا لا نكاد نختلف إلا قليلاً عن ذاك الحاكم المستبد، المشكلة في القيادات التاريخية تتجدد في القيادات التي سوف تغدو تاريخية بعد حين، من الشباب المتطلعين أصحاب المطامح والمطامع… ولهذا يجب الانتباه والحذر.
في مواجهة التحديات:
كل هذه التحديات وغيرها كثير، يجب أن تدفعنا دفعًا إلى البحث عن صيغة للتقارب والتوافق على المشتركات، حتى نتمكن من مواجهة تلك المخططات التي تحاك بنا وبمستقبل أمتنا، ومن أهم هذه المشتركات:
1ـ تحديد الأهداف الواضحة التي نعمل من أجلها لإزاحة الأنظمة المستبدة الظالمة، التي تمثِّل الخطر الحقيقي على وجود الإنسان، وحياته وحريته وكرامته، باستخدام كل الوسائل الممكنة، البشرية منها والمادية، ووضع الرؤية الصائبة التي ترى الواقع بحقيقته، دون مزايدة أو نقصان والسعي إلى التفكير بطريقة منهجية، وليست عشوائية، والتغاضي عن الخلافات الفرعية، وعلى الأقل، تأجيلها لأوقات الرفاهية الفكرية، والتجمع على القضايا الكلية غير المختلف عليها.
2ـ ترتيب البيت من الداخل يجب أن تكون له الأولوية، فضلاً عن أنه من ناحية أخرى مرتبط بشكل وثيق بتحديات الخارج، بمعنى أنه إذا تعافى العالم الإسلامي من أمراضه الداخلية وتغلب على تحديات الداخل، فإنه يكون حينئذ في وضع يؤهله للتغلب على التحديات الخارجية، ومواجهتها والتصدي لها.
3ـ من القضايا المهمة التي يجب أن ينشغل بها الذين يتصدرون لقيادة المشهد العام، تفجير الطاقات والمواهب وتحريك الإرادة والعزم، وخصوصًا عند الشباب، الذي يمتلك الحيوية والحماس والرغبة في التغيير، وتطوير الكفاءات والقدرات المادية والمعنوية، والارتقاء بالإنسان إلى مستوى التحديات والمنازلة الحضارية للخصوم والأعداء، وقيادة عملية النهضة على جميع المستويات حتى تكون راسخة في قواعدها، الشامخة في علو مبانيها.
4ـ إخلاص النية في العمل، والسعي بتجرّد لنهضة أمتنا، والابتعاد عن الصغائر التي تفرق، فكما يقولون: الشيطان يكمن في التفاصيل، والاتفاق على ما هو أهم وأشمل لخدمة الأمة، وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه.
خلاصة:
إننا إن لم ننتبه لخطورة المرحلة وتحدياتها، والعبء المُلقى على عاتقنا جميعًا، فسوف نكون معول هدم لتقدم الأمة في مسارها الصحيح، وستلعننا الأجيال القادة، لأننا لم نكن على قدر المسؤولية، وسنكون نقطة سوداء في تاريخنا نخجل منه ولا نرغب في ذكره. فكونوا على قدر المسؤولية، واستعينوا بالله، وخذوا بأسباب النجاح وتقريب المسافات، ووجهات النظر، والاستفادة بكل القدرات والإمكانيات المتاحة، والاستعانة بتجارب الآخرين، فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها. لعل ذلك يكون قريبًا.