السؤال الثاني: ما هي تلك الجهة الشريرة، القادرة الفاجرة، التي تبث هذه الصور المقزّزة بكثافة عالية، وتقنيات فنية أعلى؟
من الذي يهمه من اختطاف الملحمة الباسلة من رمزيتها المدهشة، في بداياتها، بمشاهد صبية صغار يشعلون إطارات السيارات، بمواجهة آليات شبيحة النظام السوري، وغارات الطيران الروسي، إلى هذه الفظائع المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي؟
من غير هؤلاء الذين أنتجوا مبكراً فيلم إحراق الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، حياً، ثم ذهبوا إلى الغرب في ليبيا، لتصوير عملية نحر 21 مصرياً على شاطئ البحر، بإخراج عالي التقنية، مكتمل العناصر الفنية، ثم راحوا يبدعون في الانسلاخ التام من الإنسانية، مع مشاهد أخرى في سورية والعراق وفي مصر؟.
بالتزامن مع فاجعة اللهو بجسد الطيار الروسي في حلب، والرقص فوق صدره العاري، إن صحّت مشاهدها، كان تسريب مقطع فيديو آخر لاثنين من الجنود المصريين في سيناء، ألبسوهم أزياء الإعدام البرتقالية، تمهيداً للنحر، على أيدي الدواعش، لتشكّل هذه الصورة، مع صور الطيار الروسي، عملية محو مدروسةٍ بدقة للصورة الرائعة التي بدت عليها المقاومة في حلب، وللتغطية على الفظائع التي يرتكبها نظام عبد الفتاح السيسي، مدعوماً بالحضور العسكري الصهيوني، في سيناء وضدها.
هي تلك العلاقة الجدلية، أو بالأحرى التكاملية، بين”داعش النظام” و”داعش التنظيم”، ففي كل مرة يرتكب النظام جريمةً، يسارعون بتصوير جريمةٍ سينمائيةٍ أبشع للتنظيم، يتبعه بيانٌ مكتوب بمداد إرهابي غامق، مثل ذلك البيان الذي أعقب “فيديو سيناء”، وفيه “كما أثنى التنظيم على العمليات الإرهابية التي استهدفت عدداً من العواصم والمدن الأوروبية، فيما هاجم جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وذلك رداً على دعوة الجماعة للاحتجاج والمعارضة السلمية”، قائلاً “إنها والصليبون وجهان لعملة واحدة”.
الموقف نفسه حصل قبل ما يقرب من ثلاث سنوات، ومبكراً جداً ظهرت ملامح هده العلاقة، ففي اللحظة التي كان فيها عبد الفتاح السيسي يستثمر حادث الاعتداء على العسكريين في سيناء لابتزاز العالم، لدعمه باعتباره “المخلص”من الإرهاب”الإسلامي فقط كما يراه” كان تنظيم داعش يقدم رأس الرهينة الياباني الثاني هدية لكل الدواعش النظامية العربية.
كان توقيت إعدام الرهينة الياباني لافتاً، وبدا وكأنّه يدعم ذلك الخطاب المتهافت لعبد الفتاح السيسي، والذي يهرب به من التقصير والعجز الأمني والسياسي إلى جنة الاتهامات المعلّبة للإسلاميين عموماً، و”الإخوان” و”حماس” وكتائب القسام على وجه الخصوص.
هي استعادة مملة لسيناريو”دعشنة” أو “تدعيش” أو” دعوشة” كل ما يواجه ثنائية الاحتلال والاستبداد، بما يفاقم التحليلات التي تذهب إلى أن “داعش” هو فعل قوى الطغيان، وليس مجرد رد فعل لجرائمها، أو قلت مبكراً في هذا المكان قبل أكثر من عامين، إنه مسحوق الغسيل المفضّل لدى القوى المعادية للربيع العربي، لتنظيف وجهها الملطّخ بدم ضحاياها، من جهة، ولتثبيت صورة شديدة السوء لثورات الربيع العربي، من الجهة الأخرى.
غير أنّ المفزع، هنا، أنّ من جمهور الربيع العربي من يطرب لهذه الصور، على بشاعتها، ويعتبرها انتصاراً، يهلَل له ويكّبر، فيما هي، في حقيقة الأمر، ليست أكثر من وسيلةٍ لقتل كل معنىً نبيل من معاني المقاومة والثورة، إذ تخطف الأنظار من العمليات البطولية لسكان حلب، أطفالاً وشباباً ونساء، وتقضي على أيٍ تعاطفٍ مع هذا الصمود، وتظهر المعتدي في صورة الضحية، وتقدم وجهاً مخيفاً للحركات الإسلامية، تشتغل عليه دوائر الميديا المستبدّة، وتلصق كل هذه الوضاعات بالإسلام، وتتجاهل وحشية الإبادة الجماعية التي تمارسها قوات الأسد، ومعها قوات بوتين وقاسم سليماني.
لا يعرف الإسلام التمثيل بجثث الأعداء، ولا الرقص فوقها، كما فعلت قوات السيسي في “رابعة العدوية”، وقوات الأسد في الأراضي السورية، وقوات الحشد الطائفي في الفلوجة وغيرها، فآداب الحرب في الإسلام معروفة، وحديث الرسول صلى الله وعليه سلم عن الحرب شديد الوضوح والجزم، حين يقول”اغزوا ولا تغُلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا”.
وأحسب أن الاحتفاء بمشاهد من هذا النوع إنما يعبّر عن هزيمةٍ حضاريةٍ وإنسانية، يسعى أعداء الحياة في بلادنا إلى تكريسها، ويخدش بها أيّ انتصارٍ للربيع العربي على أنظمة القتل والاستبداد.