لا شك أن المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا ستؤرخ كانعطافة مهمة وحاسمة في تاريخها الحديث، وستذكر الكثير من العوامل التي ساهمت في إفشال هذه المحاولة من الرئيس التركي مرورا بجماهير الشعب والمعارضة السياسية وليس انتهاء بدور بعض المؤسسات والشخصيات، وستخلد في مخيلة الشعب التركي وأدبياته لفترة طويلة على أنها الحدث الذي يمكن أن يؤرخ على أنه نهاية حقبة الانقلابات العسكرية وبداية الجمهورية التركية الثانية أو «تركيا الجديدة».
ولئن كنا لا نختلف كثيرا على محورية الحدث وأهميته وإمكانية أن يكون بداية صفحة جديدة ومختلفة كليا في كتاب تجربة العدالة والتنمية بقيادة أردوغان – باعتبار قيادته الفعلية للحزب حتى اليوم -، خصوصا بعد الإجراءات الاستثنائية بخصوص إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية وتبعيتها ومنظومتها الداخلية، والقرارات التي طالت مختلف مؤسسات الدولة وعدة وزارات، لكن نظرة هادئة اليوم بعد حوالي شهر من الحدث على الواقع التركي من خلال منظور تاريخي مدرك لتعقيدات المشهد في تركيا داخليا وخارجيا تبدي بشكل واضح أن مرحلة الخطر لم تنته تماما وأن الأمور لم تستتب بعد للعدالة والتنمية كما قد يُتخيل لدى النظر من بعيد بعين متفائلة؛ إذ ما زالت تمثل أمامه بعض التحديات المهمة والخطيرة، أهمها:
أولاً، الانقلاب العسكري: يمكن أن يقال إن إفشال المحاولة الأخيرة سيصعّب من إمكانية حدوث انقلاب قادم أو يجعله أفدح ثمنا، لكنه لن يغلق الباب تماما أمامه؛ لعدة أسباب. فمن المتعذر تغيير عقيدة المؤسسة العسكرية في 14 عاما من الحكم، كما أن العدالة والتنمية لا يملك الكوادر التي يمكنها ملء فراغ المفصولين من المؤسسة العسكرية أو الموقوفين على ذمة التحقيق في قضية الانقلاب، وبالتالي فتصفية جماعة كولن من الجيش يعني إعادة الاعتبار والسيطرة للتيار الكمالي فيه وهو التيار صاحب الانقلابات الأربعة السابقة، بمعنى أن الحكومة تستبدل بهذه العملية خصما بخصم آخر.
يبقى أن نقول إن أحد أهم أسباب فشل الانقلاب الأخير هو عدم اجتماع كلمة المؤسسة العسكرية خلفه، بينما لو قرر رأس هرم الجيش في المستقبل الانقلاب على الحكومة لما أمكن إفشاله بنفس السهولة، اللهم إلا أن مواجهته ستؤدي إلى مشهد شبيه بمصر ورابعة والنهضة، لا قدر الله. وبالتالي، من المهم احتواء غضب القيادات العسكرية من الإجراءات الحكومية بشان المؤسسة ككل، وهو ما تضعه القيادة السياسة التركية نصب الأعين حتى الآن من خلال الحرص على سمعة الجيش وتماسكه وقياداته الحالية.
ثانياً، التتظيم الموازي: توحي الأعداد الكبيرة للمفصولين من الجيش وباقي مؤسسات الدولة والموقوفين عن عملهم في الوزارات والهيئات الحكومية المختلفة بأن جماعة الخدمة أو التنظيم الموازي قد استؤصل تماما من المشهد، وهو تقييم متفائل وسابق لأوانه بسبب افتقاده لمُعْطيين هامين عن التنظيم: الأول أنه يستخدم التقية والسرية الشديدة بحيث يستحيل الجزم بأعداد أفراده ومناصبهم وتوزيعهم، والثاني أن التنظيم متغلغل أيضا في المؤسسات الأمنية والقضائية التي يفترض أنها تكافح التنظيم؛ بما يعطيه هوامش للمناورة تظهر بين الفينة والأخرى على شكل إطلاق سراح بعض قياداته المهمة واختفائهم/إخفائهم أو على شكل «انتحار» بعض القيادات العسكرية المشاركة في الانقلاب في السجون قبل اكتمال التحقيق!.
ثالثاً، الاغتيالات والتفجيرات والفوضى: كان مما اختلف فيه الانقلاب الأخير عن سابقيه أنه وضع ضمن خطته احتمال اللجوء لاغتيال الرئيس ورئيس جهاز الاستخبارات في حال تعذر اعتقالهما، وبالتالي ففشل الانقلاب لا يعني زوال الخطر بالكلية؛ إذ أن الاغتيالات والتفجيرات وإحداث حالة من الفوضى تبقى دائما ضمن إطار الممكن والأسهل من عملية الانقلاب بحد ذاتها. ولعله يمكن تصنيف المواجهة مع حزب العمال الكردستاني تحت هذا الباب، اختراقا او استثمارا لحالة الضبابية السائدة منذ الانقلاب الفاشل.
رابعا، سؤال الخلافة: قدم مندريس نموذجا متقدما للحكم بعد بدء التعددية السياسية في البلاد، لكن الانقلاب العسكري عام 1960 حكم عليه بالإعدام، وبدأ تورغوت أوزال مرحلة الانفتاح والتنمية في تركيا، وانتقل من رئاسة الوزراء إلى الرئاسة لكن الموت لم يمهله في ظروف ملتبسة ما زالت أمام المحاكم حتى اليوم بسبب شكوك حول قتله/تسميمه. وفي الحالتين انتهت المسيرة بغياب القائد لأن حزبيهما حزبان جماهيريان غير مؤدلجين افتقدا للقيادات البديلة القادرة على إدامة المسيرة وحمل الراية من بعدهما.
واليوم، يبدو الرئيس التركي ممسكا بزمام المبادرة ومحفوفا بقاعدة جماهيرية غير مسبوقة ومشفوعا بالكثير الكثير من الإنجازات والكاريزما والمهارات القيادية والتوفيق، بيد أن العدالة والتنمية سيكون أمام اختبار صعب في مرحلة ما بعد أردوغان، المؤسس والرئيس والزعيم والقائد شديد المركزية في الإدارة، سيما في ظل إبعاد/ابتعاد/استبعاد الأسماء الكبيرة القادرة على القيادة وجمع شمل الحزب من بعده، وفي مقدمتها عبدالله جول وأحمد داود أوغلو.
خامسا، الاستدراج والتوريط: تختلف التحديات الداخلية مهما اشتدت درجتها وتعقدت تفاصيلها عن التحديات الخارجية اختلافا جذريا، وبالتالي فضمان الأمن الداخلي لا يلغي إمكانية التوريط والاستنزاف في الخارج، سيما في المشهد السوري. ورغم أن القيادة التركية قد رددت أكثر من مرة أنها لن تستدرج نحو «المستنقع» السوري وأنها لن تتدخل عسكريا، إلا أن استمرار الظروف الضاغطة والاعتداءات إضافة إلى عوامل أخرى عديدة من بينها إمكانية إقدام أي طرف تركي على عمل عسكري محدود دون علم أو أمر القيادة قد تضعها في خانة المضطر، وهي مرحلة يملك صانع القرار أن يتخذ قرار الولوج فيها لكنه لا يضمن توقيت أو نتائج الخروج منها.
سادسا، العامل الخارجي: بمنطق بدهي مبسَّط لا يمكن أن يحصل انقلاب في دولة كتركيا، ولا أي دولة أخرى، إلا بمساعدة خارجية أو ضوء أخضر في الحد الأدنى، في الغالب من واشنطن. وبالتالي تحمل المحاولة الانقلابية رغم فشلها رسائل واضحة لأنقرة حول «مستوى عدم الرضى» عن سياساتها وقيادتها والمدى الذي يمكن أن تذهب إليه بعض الأطراف الدولية في معاقبتها. فحتى ولو سلمنا بفوات خطر الانقلاب بشكل كامل والسيطرة على كل مفاصله، فلن تعدم هذه الجهات أدوات وفواعل أخرى يمكنها استخدامها لإسقاط أردوغان والحكومة أو على الأقل إشغالهما، كبعض الفواعل والعوامل التي مر ذكرها في هذا المقال.
في الخلاصة، فقد دخلت تركيا بالفعل بعد إفشال المحاولة الانقلابية في مرحلة جديدة تمتلك فيها الكثير من أوراق القوة لصناعة «تركيا الجديدة» أو «تركيا القوية»، سيما بعد توحد الشارع والأحزاب السياسية مع الحزب الحاكم في رفض الانقلاب، ثم تقليم أظافر المؤسسة العسكرية وإخضاعها تماما للقرار السياسي المدني، فضلاً عن المواجهة الشاملة مع التنظيم الموازي. لكن كل ذلك لا يعني انتهاء المخاطر والمهددات أو انتفاءها، بل قد يعني ببساطة الانتقال من مستوى لآخر من مستويات المواجهة والاستهداف والإشغال والاستنزاف، وهو ما يعني أننا قد نكون – قريبا أو بعيدًا – أمام سيناريو مختلف تمامًا، وهو ما يضع التجربة التركية مرة أخرى على محك الاختبار الذي نأمل أن تنجح فيه كما نجحت مع سابقيه.