غالبًا ما تُتجاهل القصص الشخصية للسوريين العاديين أو تشوهها وسائل الإعلام. لكن، في كتابها الجديد «عبرنا جسرًا واهتز»، سلّطت «ويندي بيرلمان» الضوء على معاناتهم وذكرياتهم عن الحرب والتشريد، لافتة إلى أنها متفائلة بالإرادة الباسلة للشعب السوري التي ستنتصر في النهاية على نظام قمعي واستخدامهم بوق دعاية في نزاع دولي بالوكالة على الأراضي السورية.
جمعت «ويندي» شهادات اللاجئين، وقالت إن الأمر يعتبر وسيلة لتكريم الناس العاديين وجعلهم شهود عيان على التاريخ بشكل عام، وإعطاء بعد إنساني للصراعات القاسية، لافتة إلى أنها سبق ونقلت أصوات الفلسطينيين بالطريقة ذاتها في الانتفاضة الثانية من وحي مقابلات أجرتها معهم في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 2000.
وأضافت أنه بعد اندلاع الاحتجاجات في سوريا عام 2011 انتقلت لتسجيل القصص الشخصية لهم، لافتة إلى أنه من المهم توثيق المشاعر والأفكار والخبرات، وقررت الانتقال إلى الأردن عام 2012 لمقابلة اللاجئين هناك، ثم اللاجئين عبر الشرق الأوسط وأوروبا، وأنها رتّبت القصص لتعبّر بشكل جماعي عن الصراع السوري وتعميق الاحترام لتضحيات السوريين وشجاعتهم ومرونتهم.
وأوضحت «ويندي» أنّ هدفها الأول كان مقابلة أي سوري؛ لأنّها مقتنعة بأنّ كل شخص لديه قصة، وساهمت كل قصة في حل قطعة من اللغز لفهم الصراع الدائر هناك، موضحة أنها تحدثت إلى أناس من طبقات وعرقيات مختلفة في سوريا، وشملت المقابلات ثمانية بلدان.
وقالت إن غالبية من قابلتهم يعارضون بشدة نظام بشار الأسد، بينما يركّز كتابها أيضًا على شريحة من الطيف السياسي السوري، مؤكدة أنهم لا يمثّلون جميع السوريين؛ لكن من المهم أن نفهم وجهات نظرهم وتجاربهم وما تعنيه الثورة السورية لهم.
وعن كيفية تحوّل سوريا إلى ديكتاتورية عسكرية أحادية الحزب، قالت إنها استقلّت عن الحكم الفرنسي وأصبحت دولة ذات سيادة عام 1946، وكان لديها نظام برلماني تهيمن عليه نخبة صغيرة ومحافظة، وكان ضعيفًا للغاية وغير ممثل لجميع السكان، ثم حدث انقلاب عسكري عام 1949؛ ما أعطى الفرصة لسيادة الاضطراب السياسي نتيجة تدخلات العسكر في السياسة. وفي هذه الأثناء، عزّزت التطورات الاجتماعية والاقتصادية ظهور طبقة وسطى جديدة وفلاحين مسيّسين وحركات سياسية راديكالية، مثل حزب البعث.
وفي عام 1963، انقلب ضباط الجيش المنتسبون إلى حزب البعث عسكريًا واستولى حافظ الأسد على السلطة فيما بعد وأسس دولة أمنية ذات حزب واحد قوضت الحقوق والحريات السياسية وجعلتها مركزية في يد الرئيس فقط؛ ما فتح الباب إلى القمع.
وعندما ثارت «جماعة الإخوان المسلمين» في مدينة حماة عام 1982، ردّ حافظ على الهجوم الذي أطاح بالمدينة وخلّف عشرات الآلاف من القتلى؛ وبذلك حذّر الأجيال القادمة من أي محاولة للتمرد أو المعارضة. وفي العقود التي أعقبت ذلك، ابتدع السوريون عبارة «الحيطان ليها ودان»، كوسيلة للإشارة إلى تجنب الحديث في السياسة، وفي الوقت نفسه تحوّلت أيديولوجية حزب البعث وخطاباته التي كانت ثورية فيما مضى إلى فراغ، وشارك في حملات القمع.
وقالت إنّ التكوين السوري الحالي يرتبط بالحقبة الاستعمارية الأوروبية؛ فحدود الدول القومية في شرق المتوسط «بما في ذلك سوريا ولبنان والعراق والأردن» رسمتها القوى الأوروبية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، مؤكدة أنه من غير المهم النظر إليها باعتبارها فرضيات استعمارية صارمة؛ بل يجب النظر إلى تكوينات ما قبل الحكم العثماني، لافتة إلى أن حواس القرى والمدن في تلك البلدان تجمعت بعد تطورات ربطت الناس ببعضهم بعضًا، كما تعززت الهويات الوطنية في ظل الحكم الاستعماري؛ إذ رفعت الحكومات رموزًا وطنية لها وسكت عملات محلية ورسمت العلم الخاص بها ووضعت مناهج تعليمية، ومن وحي هذا ولدت الحركات المناهضة للاستعمار والمنادية بالاستقلال؛ ما جعل القوميات حقيقية وذات مغزى سياسي.
وأوضحت «ويندي» أنه لا يزال هناك دور هام للهويات الأصغر من الدولة القومية، مثل العلاقات بين القبائل والعائلات، أو ما هو أكبر من الدولة القومية كالعروبة والإسلام، لافتًا إلى أنّ الهويات الوطنية هي الوحدة الرئيسة للانتماء السياسي في المنطقة اليوم، وهو ما كان واضحًا من بعد الثورة السورية في 2011؛ إذ خرج المتظاهرون من كل عرق في الشوارع يحملون أعلامًا وطنية وهتفوا بأشعار وشعارات باسم الأمة.
وأكدت أنّ السوريين الذين تحدثت معهم خائفون من الفكرة القائلة بأن الأمة السورية أو الدولة السورية من الممكن أن تُقسّم، لافتة إلى أنّ جميعهم يريدون لسوريا أن تبقى دولة موحدة.
وعن اتهام «ترامب» للسوريين بأنهم إرهابيون محتملون، قالت إنّ الاتهام غير دقيق من الناحية الواقعية، واصفة الاتهام بأنه افتراء أخلاقي مبني على أساس العنصرية وكره الإسلام، مضيفة أن اللاجئين السوريين كغيرهم من اللاجئين، يفرون من رعب الحرب والاضطهاد والعنف من الجهات الحكومية وغير الحكومية على حد سواء.
ولفتت إلى مقال نشرته في «واشنطن بوست» قالت فيه إنّ اللاجئين لم ينفّذوا هجمات إرهابية، ومعظم الأشخاص المتهمين بالإرهاب في الولايات المتحدة من مواليد البلد، مضيفة: «أتمنى أن تحث القصص التي جمعتها الأميركيين على الاستماع إلى الاجئين».
وأوضحت أنّ الحرب السورية اليوم تظهر هيمنة المصالح الجيوسياسية ونضالات السلطة، والتدمير المطلق لمبادئ حقوق الإنسان العالمية المسؤولة عن حماية المدنيين من الفظائع، لافتة إلى أن البعد الدولي الآن لا يترك مجالًا للتفاؤل، مضيفة: «ما يعطي التفاؤل هو القوة الملهمة للاجئين السوريين المنتشرين في جميع أنحاء العالم وما زالوا يعملون على تحقيق تطلعاتهم نحو مستقبل كريم لهم ولأسرهم».
ويواصل النشطاء السوريون تنفيذ مبادرات لبناء مؤسسات للحكم الذاتي والمطالبة بالمساءلة عن الانتهاكات ومقاومة الطغيان بجميع أشكاله وإبقاء الناس على قيد الحياة وسط الكابوس العنيف الدائر في سوريا الآن، لافتة إلى أنهم يواصلون النضال من أجل الحرية بطرق مبدعة وهائلة، آملين أن يتعرف الناس على جهودهم، ومطالبين المجتمع الدولي بأن تتخذ الحكومات إجراءات أكثر وضوحًا لتحقيق انتقال سياسي حقيقي في سوريا.
شهادات اللاجئين
تحت عنوان «المواطن رقم في سوريا والحلم ممنوع»، روى لاجئ يدعى «شادي» مقاطعة زوجته له بعد اعترافه بأن أول يوم في التظاهرات بسوريا كان أفضل من يوم زفافه. وروت «يسرى»، الأرملة والأم لابن وحيد، في نحو خمس صفحات، قصة ترحيلها من مكان لم يُسمّ في سوريا إلى الأردن ثم إلى تركيا وألمانيا. وهي سيدة تزوجت في الـ15 وتوفي زوجها، ثم تزوجت من جديد بمبادرة من يتيمها المراهق، فأنجبت بنتًا وولدًا، وقادت أسرتها في غياب الزوج الجديد في رحلة بطولية إلى اليونان، ثم عبر البلقان وهنغاريا إلى ألمانيا، ثم التحق بها الزوج، وأولادها يتعلمون الألمانية اليوم، وهي نفسها تتعلمها، وتسوق الدراجة الهوائية. وقعت أكثر من مرة، لكنها مستمرة، حسبما ورد في الكتاب.
ويصف آخر، يدعى طارق محاولة المتظاهرين الوصول إلى ساحة العباسيين في يوم «الجمعة العظيمة» في أبريل 2011. يقول: «كان تجمّعًا ضخمًا، أكثر من مائة ألف شخص. جاء الناس من ضواحي دمشق، مثل دوما وحرستا وزملكا وكفر بطنا… أتذكر أننا عبرنا جسرًا وأنه اهتز تحت أقدامنا؛ لأننا كنا كثيرين جدًا».
«عُمر» أيضًا، الذي كان عمره 20 عامًا واعتقل بعد الثورة في سوريا، روى كيف شارك في نقل جثث المعتقلين المعذبين في السجن إلى مستودع خاص. وأضاف في شهادته: «بعد أن أُفرج عني كنت أتكلم مع أبي وسـألته كيف استطاع أن يكون سويًا من جديد بعد هذه الفترة الطويلة في السجن. نظر إلي وقال: من قال لك إني عدتُ سويًا في أي وقت؟».
أما «عبدالعزيز»، اللاجئ في مخيم الزعتري في الأردن، فيقول إنّ المخيم منطقة جرداء لا حياة فيها، ويضيف: «لقد وضعونا في منطقة لا أشجار فيها ولا حيوانات. قبل أيام شاهدنا فراشة في المخيم. تنشط الجميع وابتهجوا برؤيتها، كنا نهتف لبعضنا أن تعالوا وشاهدوا الفراشة، لا بد أنها أضاعت طريقها حتى وصلت إلى هنا».
فيما روت لاجئة أخرى قصة مقتل والدتها وعزاء رفاقها الثائرين لها، وكيف جلعت من هذا العزاء فعلًا ثوريًا، وتحدثت أيضًا عن نشاطها الثوري في مناطق حلب الخارجة وقتها عن سيطرة النظام وتعرّضها إلى التهديد بالخطف من تنظيم الدولة واضطرارها إلى الخروج من حلب إلى تركيا، وتضيف: «كنت أبكي مثل طفلة صغيرة».
وروت «ريما» شهادتها عن وقت الثورة وقالت فيها: «كنت في مظاهرة. كان هناك من يهتفون، وانضممت إليهم. بدأت بالهمس: حرية. وبعدها أخذت أسمع صوتي يكرر: حرية، حرية، حرية. ثم بدأت أصرخ: حرية، فكرت أن هذه أولى مرة على الإطلاق أسمع صوتي. وقلت لنفسي إني لن أدع أيًا كان يسرق صوتي بعد اليوم».