شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

«ديفيد هيرست»: سقوط «بن سلمان» ليس سوى بداية أزمة أكبر بكثير

لم تكن الكلمات التي حسمت مصير جمال خاشقجي ذات أهمية. في ذلك الوقت، لم يكن خاشقجي مدركاً للخطر الذي كان يعرض نفسه له. كان ذلك في الخامس عشر من نوفمبر من عام 2016. كان ترامب قد انتُخب للتو رئيساً وكان أحد مراكز الأبحاث في واشنطن يستطلع آراء الصحفيين والمحللين من مختلف مناطق الشرق الأوسط.

كان مستقبل العلاقات الأميركية السعودية مجرد واحد من عدد من القضايا التي جرى نقاشها. في مداخلة متواضعة لم تتجاوز الخمس دقائق، تحدث خاشقجي إلى معهد واشنطن من برلين عبر سكايب مناقضاً الموقف الرسمي لبلاده في مقطعين من مداخلته.

قال خاشقجي: «كثيرون من زملائي ومن المعلقين (السعوديين) يرون أن السيد ترامب جمهوري آخر فقط لا غير. والجمهوريون شيء جيد بالنسبة للمملكة العربية السعودية. أما أنا فأخالفهم الرأي. لا أعتقد أنه جمهوري بذلك القالب. كما أن زملائي وكثيراً من المسؤولين يقولون إن ترامب الرئيس يختلف عن ترامب المرشح. وهنا أيضاً أميل إلى الاختلاف معهم فيه. فالأفكار التي عبر عنها ترامب راسخة في فلسفته… أظن أن على المملكة العربية السعودية أن تعد نفسها لمفاجآت».

 لا يوجد في ما قاله ما هو خياني أو مثير للفتنة. لا شيء مما قاله يمكن أن يثير حفيظة هنري الثامن أو آيفان المرعب. لم يكن اعتبار خاشقجي تهديداً وجودياً لمحمد بن سلمان ليُفهم إلا لو كنت تعلم -وهو ما لم يكن معلوماً لأحد آنذاك- أن ولي العهد السعودي ومعلمه الإماراتي محمد بن زايد كانا يبذلان جهوداً غير عادية للتقرب من الرئيس الجديد وكسب وده.

أصبح دور ترامب حيوياً ليس فقط لصعود الأمير الشاب إلى السلطة في بلاده – وكان حينها لا يتجاوز الحادية والثلاثين من عمره ويحتل منصب نائب ولي العهد – وإنما أيضاً لضمان تحقيق طموحاته في أن يصبح الزعيم القادم الذي يهيمن على مقاليد الأمور في العالم العربي. ولذلك لا ينبغي أن يسمع الناس في واشنطن صوتاً سعودياً إلا إن كان صوتاً لمن يرتزقون من الولاء له. إذا كان محمد بن سلمان يعتقد أن بإمكانه أن يشتري رئيس الولايات المتحدة، فسوف تكون واشنطن فتاتاً سهلاً، ولقد كانت كذلك لزمن طويل.

في عمود لا ينبغي أن يسمح له بأن ينساه، وصف توماس فريدمان، الكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز»، خطط محمد بن سلمان لبلاده بأنها «الربيع العربي الخاص بالمملكة العربية السعودية». خلال أيام معدودة، قام سعود القحطاني، الذراع اليمنى لولي العهد، باستدعاء جمال خاشقجي ليخبره شخصياً بأنه ممنوع من ممارسة أي نشاط إعلامي.

لا مقالات ولا تغريدات حتى إشعار آخر. اشتاط خاشقجي غضباً، فبأي حق يأتي هذا البلطجي ليأمره وينهاه، كما أخبرني فيما بعد. إلا أنه التزم بما أمر به. على الأقل كان لا يزال حراً طليقاً بإمكانه السفر، ولئن بصمت. ثم بعد ما يقرب من عام فاض الكيل بخاشقجي.

بدأ يكتب مقالات في موقع «ميدل إيست آي» تحت اسم مستعار، ثم بعد شهور قليلة أماط اللثام وكتب عموداً باسمه في صحيفة «واشنطن بوست». قال لي خاشقجي حينها: «يجب على الصحفيين أن يكتبوا، ولو فقط لمنح صوت لكل أولئك الذين لا يستطيعون التعبير بحرية داخل الوطن. لا أطلب سوى الحد الأدنى. إنها حرية التعبير. لست ثورياً وأكره وصفي بالمعارض».

 إني على قناعة أنه لو اختار أي عاصمة أخرى لتكون ملاذاً لمنفاه الطوعي لكان اليوم حياً يرزق. لأن واشنطن هي العاصمة التي ظن ولي العهد السعودي أن بإمكانه أن يحتكرها لنفسه. وواشنطن كانت العاصمة التي من المفروض أن تنطلق منها المنظمة غير الحكومية التي كان جمال خاشقجي يخطط لتأسيسها للدفاع عن حرية الصحافة في العالم العربي، وذلك ما أفسد الأمور على الأمير.

وكم كان مناسباً أن تتهاوى صورة محمد بن سلمان في نفس تلك المدينة، وكم هو مثير للاهتمام أن تقود الهجوم عليه وكالة المخابرات الأميركية – وليس الرئيس التركي صاحب السجل الطويل في تقييد حرية الصحافة في بلاده.

وكم هو مناسب أنه بعد كل ذلك المال، وذلك التلاعب، وممارسة الضغط السياسي، وفتح القنوات الخلفية، وكل تلك الولائم على الإفطار والغداء والعشاء التي كان ينظمها سفير الإمارات يوسف العتيبة، يطل فجر العام الجديد وقد توقف التداول بأسهم محمد بن سلمان.

في حياته، كان جمال خاشقجي، اللطيف الخلوق، في أحسن أحواله سيسبب صداعاً للأمير الطامح. أما في مماته، فقد أصبح جمال خاشقجي أشد خطراً على مخططات الأمير من وباء الإيبولا. ها هو وريث العرش السعودي ينزف بلا توقف، ولا يمكن لأي عملية نقل دم – مثل مصافحة يد بنيامين نتنياهو – أن تبعث الحياة في جثته السياسية.

لم تنته الحكاية بعد. صحيح أن قرارات الإدانة التي تبناها الكونجرس الأميركي المنتهية ولايته احتفالية إلى حد بعيد، وذلك أنه على الرغم من الدعم الذي حظيت به هذه القرارات من قبل الحزبين داخل مجلس الشيوخ، إلا أن مجلس النواب المنتهية ولايته، والذي تهيمن عليه أغلبية جمهورية، سيترك القرار يلفظ أنفاسه من خلال الامتناع عن التصويت عليه. أما مجلس النواب الجديد فشيء مختلف تماماً، ليس فقط من حيث قدرته على استدعاء الشهود ولكن أيضاً من خلال السعي لاستصدار تشريع يستهدف المملكة العربية السعودية بالعقاب.

 إذا كانت محاولات التستر على التورط السعودي في هجمات الحادي عشر من سبتمبر قد أفرزت قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب (جاستا)، فبإمكاننا أن نتوقع أن تؤدي جريمة قتل خاشقجي إلى تشريع أقسى وأشد إيلاماً.

راقبوا ما ستفعله الـ«سي آي إيه» في الشهور القليلة القادمة. إنها تسعى إلى انتهاج سياسة حول المملكة العربية السعودية تختلف تماماً عن نهج (الانسحاب) الذي تبناه وزير الخارجية مايك بومبيو أو حتى ترامب نفسه.

إذا كان لديك رئيس يبارك الحصار السعودي المفروض على قطر، ولم يكن يعرف أن الدوحة تستضيف أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، رئيس يسحب قواته من سوريا مخالفاً في ذلك نصيحة آخر سند له داخل البيت الأبيض، جيم ماتيس، إذن لم يعد من الخيال افتراض أن أحد ذراعي الجهاز التنفيذي في الولايات المتحدة قد يبادر إلى تولي الأمور بنفسه قائلاً إنه إنما يفعل ذلك حماية للمصالح القومية للولايات المتحدة.

إذا كان الرئيس نفسه لا يعرف ما هي المصلحة القومية للولايات المتحدة، فقد يشعر الآخرون أن عليهم القيام بما يمليه عليهم الواجب في هذا الصدد.

 يخفي سقوط محمد بن سلمان مشاكل أكبر تتربص بأميركا وأوروبا.

ضع جانباً للحظة معتقدات الغرب الخاطئة حول الأيديولوجيا في العالم العربي، أو من تعتبرهم حملة الإسلام المعتدل (والذين تبين أنهم أي شيء سوى المعتدلين)، أو الناس الذين يعتبرهم الغرب مصلحين، أو العلمانية والإسلاموية، والدكتاتورية والديمقراطية. وانسَ القيم وركز تفكيرك فقط على المصالح القومية، على الاستقرار في المنطقة من منطلقات نفعية بحتة – والقدرة على وقف تدفق المهاجرين.

أكبر ثلاث كتل اقتصادية في العالم العربي بحسب الناتج الإجمالي المحلي هي المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر. وكل واحدة من هذه الدول تعاني الآن من مشاكل كبيرة.

أعلنت المملكة العربية السعودية لتوها عن أكبر عجز في الميزانية في تاريخها، ولقد انكمش اقتصادها لأول مرة منذ ما يقرب من عقد، حيث تسببت الحصص والرسوم الجديدة في خروج ما يزيد عن 900 ألف عامل أجنبي، وتراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة من 7.5 مليار دولار في عام 2016 إلى 1.4 مليار دولار في عام 2017.

وبسبب النزاعات مع ألمانيا وكندا ثم مصادرة ممتلكات أغنى الأمراء ورجال الأعمال السعوديين بعد احتجازهم وسجنهم بشكل غير قانوني في فندقين من فنادق الرياض تحول القطرات المالية الهاربة من المملكة إلى سيل عرم – وتشير آخر الأرقام إلى أن ثمانين مليار دولار أخرجت في العام الماضي وحده.

وفي الإمارات العربية المتحدة تعاني دبي من مشاكل حقيقية. هناك انحسار في سوق العقارات والإنشاءات التي تشكل ما يزيد عن 13 % من إجمالي الناتج المحلي في دبي، وفقد سوق دبي للأسهم ربع قيمته.

وبسبب سوء الإدارة، والتورط في مشاريع إنشائية مهولة، والهيمنة الكاملة للجيش على الاقتصاد المصري، فإن الدين الخارجي للحكومة يتصاعد بشكل لم يعد بالإمكان السيطرة عليه. لقد تضاعفت الديون الخارجية منذ عام 2015 تقريباً. يقدر إجمالي دفعات الفوائد على الديون المصرية الآن بما يقرب من 30 مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل 38 بالمائة من ميزانية الحكومة للعام 2018 – 2019. وبات نقص السلع والبضائع أمراً شائعاً، فخلال الشهور الستة الماضية شهدت مصر نقصاً في البطاطس وندرة في المياه.

 تشهد الدول العربية الأفقر، مثل السودان والأردن وتونس، احتجاجات ضخمة على ارتفاع الأسعار والضرائب. اكتسحت الاحتجاجات أرجاء مختلفة من السودان بسبب ارتفاع أسعار الخبز والوقود، وأشعل المحتجون النار في مقر حزب المؤتمر الوطني الحاكم في عطبرة إلى الشمال من العاصمة الخرطوم.

وفي الأردن خرج الناس إلى الشوارع مجدداً للاحتجاج على نية الحكومة رفع الضرائب بعد أن أجبرت التظاهرات رئيس الوزراء على الاستقالة في الربيع الماضي.

تتمثل القنبلة الموقوتة التي توشك على الانفجار في هذه البلدان في البطالة المنتشرة بين الشباب، حيث تبلغ معدلات البطالة الرسمية بين الشباب، ناهيك عن المعدلات الحقيقية، واحداً وعشرين بالمائة في الشرق الأوسط وخمسة وعشرين بالمائة في شمال أفريقيا. وتصل في كل من تونس والجزائر والمغرب الى ما يقرب من ثلاثين بالمائة.

باتت المحركات التقليدية للاقتصاد العربي – المملكة العربية السعودية ومصر والجزائر – إما في حالة من الاختناق بسبب هبوط أسعار النفط أو تعاني من انهيار تام. لا تتوفر لدى الحكام المستبدين الفاسدين ولا لدى الجيش والنخب التابعة لهم، أي فكرة حول كيفية خدمة شعوبهم، ناهيك عن أن توجد لديها أي رغبة حقيقية في فعل ذلك.

لقد أصبحت العوامل التي أدت إلى انفجار الانتفاضات العربية في عام 2011 أقوى بكثير بعد ثمانية أعوام. الفرق بعد مرور ثمانية أعوام هو أن المنطقة باتت أضعف بكثير ولا تملك القدرة على امتصاص الصدمة التي سيولدها الصراع الاجتماعي. هناك ثلاث دول فاشلة في العالم العربي، وتلك هي سوريا واليمن وليبيا.

ومع موت الكيانات الدولية، وبشكل خاص مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية، لم يعد ثمة إجماع عربي قادر على ربط المنطقة بعضها ببعض.

 إلا أن هناك الكثير مما يمكن أن يشعل الشارع العربي. كان عام 2018 هو العام الذي شعر فيه اليمين في إسرائيل بأنه لم يعد مقيداً، وذلك بفضل التخلي عن العرف الذي كان يقضي بالحصول على موافقة الولايات المتحدة على كل تمدد جديد لدولة إسرائيل. كان ذلك ما عبر عنه بوضوح سفير الولايات المتحدة نفسه. ففي مقابلة مع صحيفة هيوم اليومية الإسرائيلية قال دافيد فريدمان إن إسرائيل «لا ينبغي عليها أن تحصل على إذن من الولايات المتحدة» لبناء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة.

أطلق ترامب يدي نتنياهو حتى يسحب من طاولة المفاوضات القدس الشرقية وحق العودة وحتى تسعة أعشار اللاجئين الفلسطينيين أنفسهم. وسيكون عام 2019 هو السنة التي سيبدأ فيها طرد المواطنين الإسرائيليين غير اليهود إلى الضفة الغربية، فقد مر مشروع قانون يقضي بطرد عائلات المهاجمين الفلسطينيين إلى الضفة الغربية بأول قراءة له داخل الكنيست.

ثمة الكثير مما يعتمد على مصير ترامب ذاته. فقد بات هو ودائرة أصدقائه من طغاة الشرق الأوسط مربوطين معاً. ما أن تحل الربطة حتى يصبح كل طاغية منهم وحيداً بمفرده. إذا كانت جريمة قتل جمال خاشقجي قد دفعت بموجات صادمة في كيان مصر السيسي، فإن سقوط ترامب سيترك كل واحد من الطغاة عرضة لانقلاب قصر يجري في بلاده.

أجدني راغباً في الاعتقاد بأن مغادرة ماتيس هي بداية نهاية ترامب، وأن جريمة قتل جمال خاشقجي البشعة هي نهاية محمد بن سلمان، ولكنني لست هنا بصدد الإغراق في التمني.

 ما يحتاج فعلاً إلى تغيير هو السياسة ذاتها، والتي بات أمرها من المسلمات. ما من شك في أنه عندما تحين ساعة الحسم فإن جميع القوى الاستعمارية السابقة وإسرائيل ستساند الطغاة. وكلما ساء سلوك الطاغية كلما زاد حرص الحكومات الغربية على إنقاذه، تماماً كما تفعل بريطانيا الآن مع ولي العهد السعودي.

وكلما زادت الفوضى التي يسببها الطاغية كلما تعزز الخوف من أن يؤدي البديل إلى زعزعة الاستقرار. ليس بإمكاننا الاستمرار في إدارة ظهورنا كما فعل باراك أوباما بعد مذبحة ميدان رابعة في القاهرة.

ينبغي على أوروبا أن تعي بأن السيسي ومحمد بن سلمان وبوتفليقة في الجزائر لديهم القدرة على الدفع بملايين المعدمين والبائسين من العرب باتجاه الشمال، فهل هي مستعدة لذلك؟ لم تكن “داعش” سوى عرض من أعراض المرض المتمثل في فشل الدولة العربية. وأما السبب فيحيط بنا من كل جانب.

إلى أن يتعلم الغرب أن مثل هذا المرض لا يمكن التعافي منه إلا بالإصلاح السياسي، من خلال الشفافية والديمقراطية، فمحكوم عليها انتظار الانفجار القادم، وقد يكون هذه المرة انفجاراً ضخماً، إذ لم يكتمل بعد ما بدأه خاشقجي في حياته من عمل.

بقتله جمال خاشقجي، وكان ينبغي أن يكون ذلك واضحاً قبل ذلك من خلال شنه الحرب على اليمن، فإن محمد بن سلمان يكشف عن مكانه الحقيقي في العالم العربي. هو ومن على شاكلته ليسوا مصادر للاستقرار، ويداه ليستا آمنتين. إذا كنت لا تثق به بوجود منشار عظم، فما الذي يمكن أن يفعله بوجود وقود نووي؟ إذا كنت لا تثق به كولي للعهد، فما الذي سيكون عليه الأمر لو أصبح ملكاً؟

* مقال للكاتب الصحفي: ديفيد هيرست

نقلاً عن موقع «ميدل إيست آي» البريطاني.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023