“كل التعازي من خلال قنوات العربية والغد وسكاي نيوز إلى آل ناقص وآل منشار وآل طحنون، أدام الله خيباتكم وهزائمكم. لماذا تتدخلون في انتخاباتنا ونحن لم نتدخل في انتخاباتكم؟ لم نتدخل في انتخاب أجمل ناقة وأسرع ماعز، متى ستقفون عن التسلية بدمائنا ودماء أشقائنا العرب في اليمن الذي قتلتم الآلاف فيه تحت الأسمنت، في سوريا قتلتم الآلاف بأموالكم، في ليبيا الآلاف في العاصمة طرابلس يتم قصفهم على مدار عام كامل تحت سمعكم وبصركم وبإشرافكم ولم تنطقوا بكلمة، فلماذا تحدثتم الآن؟”.
لم أجد أفضل من تلك الكلمات التي قالها النائب التونسي عبد اللطيف العلوي في جلسة عاصفة للبرلمان التونسي لتكون مقدمة لهذا المقال، فالرجل قال كلمات أسمعت من به صمم، ولاقت انتشارا كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي في أقل من أربع وعشرين ساعة.
رسائل العلوي عكست حالة الاحتقان الشديد التي يعاني منها المشهد السياسي التونسي في الأسابيع الأخيرة، والتي كشفت الأحداث أن منبعها ومصدرها بين أبو ظبي والرياض ورأس حربتها النظام العسكري في مصر.
أظهر لي موقع فيسبوك في هذه الأيام ما كتبته قبل ثلاثة أعوام، إبان فضيحة تسريبات السفير الإماراتي في الولايات المتحدة يوسف العتيبة، والتي كشفت عن الوجه القبيح للإمارات وحكامها ودبلوماسيتها، والذي يزداد سوء وقبحا مع مرور السنوات، من ترويج الانقلاب العسكري في مصر ظهيرة الثالث من تموز/ يوليو 2013، وتنظيم مؤتمرات في الولايات المتحدة للهجوم على قطر ووصمها بدعم الإرهاب، وما ذكرته صحيفة ذا انترسيبت الأمريكية من تورط الإمارات في ترتيبات محاولة الانقلاب العسكري في تركيا، ومحاولاتها تشويه حماس والفلسطينيين بشكل مستمر داخل أروقة صناع القرار الأمريكي.
الإمارات التي كشفت تسريبات صوتية أذاعتها خلال فترة عملي في فضائية مكملين، عن دعمها لحركة تمرد للانقلاب على الديمقراطية، وتمويلها بالمال والسلاح لقبائل بعينها في ليبيا من أجل إسقاط الثورة الليبية ودعم انقلاب خليفة حفتر عليها، يبدو أنها قررت في الأسابيع الأخيرة أن تعلن “انسحابا تكتيكيا” من الملف الليبي بعد خسارة رجلها وحليفها هناك خليفة حفتر، وتعلن عن “إعادة تمركز” جديدة لخططها لتدمير ما تبقى من ثورات الربيع العربي، ولا توجد إعادة تمركز أفضل من إسقاط التجربة التونسية عمود الثورة العربية الوحيد المتبقى.
كشفت لنا الأيام أن مصطفى بكري المصري لا يختلف كثيرا عن عبير موسى التونسية، ذرية سياسية فاسدة بعضها من بعض.. تربوا في كنف مبارك وابن علي وجاهروا بنصرتهما وتأييدهما، ثم قامت الثورة فركبوا أول موجة ضد الهارب والمخلوع الراحل ولبسوا ثوب النضال الثوري وعلا صوتهم داخل أروقة البرلمان في القاهرة وتونس، حتى أعادت الإمارات والسعودية تمركزهما مرة أخرى ورسمتا لهما ولأمثالهما طريق هدم الثورات ومحاربة التجربة الديمقراطية، فأصبح بكري وعبير من رموز محاربة الفساد، يهتفون بسقوط البرلمان والحكومة، يصطنعون دور المعارضة الوطنية الشريفة، ولكن الحقيقة أن ثنائية مصطفى بكري وعبير موسى باتت ظاهرة “للآكلين على كل الموائد”، خاصة لو كان الرز الخليجي حاضرا وبقوة.
يوم تحررت طرابلس من حصار حفتر وتمت السيطرة على مطارها الدولي، ذهب حفتر إلى السيسي وأقام إعلام محور الشر في أبو ظبي- الرياض- القاهرة المآتم حزنا على خسارتهم وخيبتهم على الأراضي الليبية، ولكنهم تحولوا مباشرة إلى تونس علّهم يجدون فيها عوضا عن فضيحتهم داخل ليبيا. وفتحوا النار مرة أخرى على راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة، ومن ورائه الحركة والتجربة التونسية بأكملها. وفي هذا دلالة كبيرة على عظم المأزق وعمق الأزمة التي تعيشها تلك المنظومة التي بات التشفي في هزائمها المتتالية في ليبيا واليمن محل إجماع لدى الكثيرين من المحيط إلى الخليج.
إعادة تمركز محور الثورة المضادة في تونس واستهدافه لآخر معاقل الربيع العربي؛ يعطينا دلالة جديدة أن تلك الدول أزمتها مع الديمقراطية أينما وجدت، ومفهوم الانتخابات وإرادة الشعوب غائب عنها. فمفهوم السياسية والحكم في السعودية والإمارات قائم على قتل الأخ لأخيه في سبيل الكرسي، وأن يسجن الرجل أعمامه وأبناء عمومته وينهب ثرواتهم ويسرق أموالهم ثم يخرج علينا ليخبرنا بأنه يحارب الفساد.. نشر الكراهية وتقسيم أبناء البلد الواحد إلى طوائف وتيارات يكره بعضها بعضا هو الدستور القائم في نفوس حكام تلك الدول.
ستظل المقولة الخالدة التي كنا ولا زلنا نتغنى بها منذ أيام الثورة التونسية الأولى مرورا بثورتنا في ميدان التحرير، أن الإجابة دائما تونس، فهي من علمتنا الثورة وهي من علمتنا التوافق في الحكم، وهي أيضا من ستعلمنا بأمر الله وتوفيقه الانتصار على محور الثورة المضادة ولو أعاد تمركزه ألف مرة.
(عربي 21)