في رائعته “عباس واللص”، وصف لنا الشاعر أحمد مطر شخصية عباس صاحب الشعارات الحنجورية والكلمات الرنانة والخطب القوية، عندما سرق اللص بيت عباس ونحر بقرته ورسم له دائرة داخل بيته يهدده بالقتل لو تجاوزها، إلا أن عباس استل خنجره “بعد خراب مالطا” وبعد ضياع بيته وبعد ذبح بقرته وبعد سرقة منزله، ليصرخ قائلا بكل فخر: “لقد اجتزت خط الدائرة”.
تذكرت عباس وأنا أشاهد الذراع الإعلامي المصري أحمد موسى؛ وهو يجلس بثقة بالغة أمام الكاميرات في مدينة الإنتاج الإعلامي مقدما برنامجه على فضائية صدى البلد، ليعلنها قوية مزلزلة على طريقة عباس: “لن نشعر بالعطش”. وفي مشهد سينمائي يصلح لأفلام الترسو أمسك موسى بالكوب الذي أمامه ورفعه للأعلى وشرب منه مرتين، ثم قال بلهجة المنتصر: “هذه مياه ولن يمنعها عنا أحد، لن نشعر بالعطش”، ثم كررها مرتين.
لا أتهم إثيوبيا هنا بالسرقة أو أشبهها باللص في أبيات أحمد مطر، ولكنه التشبيه بشخصية عباس وتشابهها مع أحمد موسى وغيره.. شخص أضاع حقه بيديه ووقف متفرجا على طرف آخر يهدده رويدا رويدا ويفعل ما يشاء بحصته في مياه النيل، ثم إذا ما وقعت الفأس في الرأس وقُضي الأمر، خرج علينا أشباه أحمد موسى بهذه اللقطات السينمائية التي لا تسقي عطشانا ولا تطعم جائعا، ولا تحفظ لمصر نقطة واحدة من مياه النيل، إلا بعض المشاهدات على قناة موسى وغيره تكسبهم مزيدا من الإعلانات والأموال أيضا.
هذا العباس أيضا يمكنك أن تراه متمثلا في عبد الفتاح السيسي بشحمه ولحمه؛ يوم رفع يديه ببلاهة متناهية بصحبة الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق ميريام ديسالين، يوم توقيع اتفاقية المبادئي أو إن شئت القول اتفاقية ضياع حق مصر في مياه النيل، ثم خرج علينا السيسي ليعد الشعب المصري بأنه لن يسمح لأي قوة خارجية أن تهدد أمن مصر المائي وحقها في مياه النيل.
وزارة الري والموارد المائية المصرية تعلن فشل جولات المفاوضات خلال الأسبوعين الماضيين، فلم تتفق الدول الثلاث على شيء، واستمرت إثيوبيا في ما أرادت من البدء في ملء خزان سد النهضة خلال أيام، في إجراء وصفته مصر بأنه إجراء أحادي يتنافى مع كل الاتفاقيات والمواثيق الدولية، ويهدد الأمن المائي المصري ويضربه في مقتل. ويبدو أن قادم الأيام ستشهد توترا أكثر؛ ربما يصل بالنظام المصري إلى التلويح بالعمل العسكري حفاظا على ما تبقى له من ماء وجه.
أزمة سد النهضة كشفت لنا صنفين من المصريين، إلا قليلا منهما، صنف مؤيد حد النفاق، يتقرب إلى السيسي ولو على حساب الوطن، يكيل المديح لاتفاقية المبادئ، ويكتب أن السيسي حل الأزمة ثم يؤيد تصريحات السيسي المعاكسة لذلك.. فلو بارك السيسي سد النهضة لباركوه، ولو انتقد السيسي السد لانتقدوه، ولو هدد السيسي بالحرب لحاربوا معه ولحشدوا الناس ضد إثيوبيا، ولو على حساب مصر وشعبها وأهلها الطيبين.
وصنف آخر عانى من ظلم شديد وذاق ويلات الحياة من قبل السيسي ونظامه، فعارض السيسي وما يقوم به، وعمل بشكل يومي على فضحه ومهاجمته وانتقاده في كل لحظة، وهو يستحق ذلك، حتى إذا جاءت أزمة سد النهضة اختلط الأمر على بعضهم، فباتوا يخلطون بين معارضة السيسي ومعارضة الوطن ومصالحه، وبات حديثهم أقرب إلى الرواية الإثيوبية، وكأنهم باتوا متحدثين باسم الخارجية الإثيوبية ومدافعين عن مصالحها.
كلا الصنفين غرق في وحل السبع السنوات الماضية بانقساماتها وأزماتها وبطش نظامها، ونسيا أن الحديث الآن عن حصة مصر من المياه لا عن حكم السيسي، ومصير الشعب المصري من العطش لا عن مصير السيسي.
وسيقول أحدهم: وهل أضاع حق مصر من المياه إلا السيسي؟ سأتفق معه وأعيده إلى قصة عباس في بداية المقال، ولكني أقول إن السيسي راحل لا محالة، وستبقى تركته العفنة عبئا ثقيلا على من سيأتي بعده، ومنها أزمة سد النهضة، ولذلك ليس من المصلحة أن نخلط بين هذا الجنرال وما يفعله، وبين مصير مصر وما ستلاقيه.