بقلم: سمية الغنوشي
كلما تصفحت مواقع التواصل الاجتماعي وقلّبت الأخبار المتداولة في المنطقة العربية، حاصرتك التفاهة والضحالة من كل جانب. العالم العربي مرتع لثقافة تفاهة مدفوعة الأجر، تتغذى من أخبار نجوم الفن، ما بين خصام شيرين وزوجها وإدمانها المخدرات، وعمليات تجميل أصالة نصري..
طبعا، هذه الحالة ليست حكرا على العالم العربي والإسلامي، فالمناخ الثقافي العالمي بات محكوما بما أسماه الكاتب الكندي ألان دونو نظام التفاهة. فضاء يتنفس فيه الجميع هواء متعفنا بأخبار النجوم والفنانين والرياضيين، ويغمضون أعينهم عما سواها.
لكن الفارق هو أن الدول المتقدمة ظلت تتمتع بمؤسسات ثقافية وعلمية راسخة تجعل من التفاهة إحدى الظواهر البارزة في الحياة الاجتماعية والثقافية الغربية، ولا تمكنها من ابتلاع كامل المشهد. الجامعات ومراكز البحوث والمؤسسات الفنية العريقة قلاع منيعة، ما زالت تقوم بأدوارها المحورية في إحداث التوازن بين منطق القيمة والجدية ومنطق السطحية والتفاهة.
مؤسسات ضبط للقيمة والجودة في مواجهة الضحالة والرداءة تكاد تغيب في العالم العربي والإسلامي، تعشش مكانها التفاهة والرداءة. وهذا هو حال العرب اليوم، خاصة الشباب منهم، يتخبطون في دوامة التيه والضياع بلا أوتاد تشد كيانهم ولا بوصلة تضبط مسارهم.
فراغ ديني وثقافي تمخض عن تفكيك المؤسسات التعليمية الإسلامية وتغييب سلطة عالم الدين باعتباره موجها أخلاقيا في المجتمع المسلم. فقد جرفت رياح التحديث العاتية التي هبت على المنطقة الإسلامية جلّ مؤسساتها الاجتماعية والثقافية “التقليدية”. أما من بقي منها على قيد الحياة، فقد فَقَدَ استقلاليته تماما وبات مجرد ذراع من أذرع الدولة وصار رجاله محض موظفين رسميين في خدمة الحاكم.
في تونس، جامعة الزيتونة العريقة أنهتها دولة الاستقلال ولم يبق منها غير ظل باهت، فرع متواضع لدراسة العلوم الشرعية.
في المغرب، كانت جامعة القرويين أفضل حالا، لكنها صارت مؤسسة هامشية على تخوم التعليم الجامعي الرسمي.
أما جامعة الأزهر، أثقل المراكز الدينية والعلمية في العالم الإسلامي، فرغم أن مشروع الإصلاح الذي قاده الشيخ محمد عبده أواخر القرن التاسع عشر قد منحها جرعة من الحياة والتوهّج، فقد باتت اليوم تابعة للسلطة خاضعة لإملاءاتها.
الاستثناء كان إيران الشيعية التي استمر فيها دور المراكز التعليمية الدينية، نظرا لرسوخ مفهوم المرجع في الفكر الشيعي وتوفر الموارد المالية عن طريق نظام الخمس للمراجع الدينية. حافظت على سلطتها، رغم استغراقها في تقاليدها المذهبية المغلقة.
أما المجال السني الواسع فقد اختفى منه أو كاد دور المؤسسة التعليمية الدينية وعالم الدين.
مقابل ذلك، عجزت الجامعات الحديثة، التي أنشئت في سياقات التحديث، عن الحلول محل المؤسسات التعليمية الضاربة بجذورها في عمق التاريخ، وعجز ما يسمى بالمثقف الحديث عن ملء الفراغ الذي خلّفه الفقيه، بأدواره العلمية والأخلاقية الوازنة.
فالعالم كان تجسيدا للطابع الموسوعي لنظام المعرفة الإسلامية، متضلّعا في اللغة والبلاغة والفقه وعلم الكلام والفلسفة والتاريخ، يرى نفسه كما تراه جماعات المسلمين ممثلا لأمانة الإسلام ومجسّدا للضمير الجمعي.
أما “المثقف الحديث”، فنشأ حاملا لتشوهات نظام هش هجين، بتكوينه السطحي ولغته الكسيحة وعجزه عن الخلق والابتكار، فلا هو حافظ على موقع العالم التقليدي ولا شغل دور المثقف الحديث.
ويكفيك أن تقلّب النظر في تصنيف الجامعات العالمية حتى تدرك بؤس المؤسسات الجامعية العربية، التي تعجز أي منها عن دخول قائمة الجامعات المائة الأولى في العالم.
ثم زادت الحرب على الإرهاب الطين بلة، فجُرّف في خضمّها ما تبقى من ظلال باهتة للمؤسسة العلمية والثقافية والاجتماعية الإسلامية. عُدّت “المدرسة” وكل المؤسسات التقليدية مصدرا لتفريخ الإرهاب والإرهابيين، واعتبر مجرد حفظ القرآن الكريم وتدريسه منبعا للتطرف والمتطرفين.
وتدهور الوضع أكثر مع خطة محاربة الإسلام السياسي تحت عنوان “تجفيف المنابع”، التي طُبقت أولا في تونس في تسعينيات القرن الماضي. حوربت التوجهات الإسلامية على مستوى الثقافة والفكر والفنون والآداب، لقطع صلة المسلم بموروثه العربي الإسلامي بمختلف أبعاده. فغابت حتى بعض المسلسلات التاريخية عن أمجاد الإسلام والمسلمين التي تابعها المشاهد العربي في عقود مضت عن المحطات التلفزية ودور السينما، ضمن توجهات استراتيجية لتطهير التعليم والثقافة من كل المؤثرات الإسلامية.
عملية تجريف ثقافي أفرزت ما نراه اليوم من هشاشة في التكوين الديني واللغوي، واغتراب للشباب عن منابعهم الإسلامية، ونزوع نحو السطحية والتفاهة والتطرف في آن؛ تدمير ممنهج ألقى به في متاهات الفوضى واضطراب القيم والمعاني.
دوامة ضياع تغذيها أنظمة التسلط المرتعبة من استفاقة الوعي العربي وارتفاع مطالب التغيير والإصلاح، أنظمة تستثمر في تغييب العربي عن ماضيه وحاضره ومستقبله؛ وتحويله إلى كائن مادي مستهلك سطحي بلا هوية ولا رؤية ولا وجهة، تجفف منابع التديّن وتهدر المليارات على الحفلات والسهرات وبرامج السطحية والرداءة، من الرياض إلى الرباط مرورا بالقاهرة.
أنظمة انخرطت بما تملك من قوة في سياسة الأرض المحروقة، فانتقلت من محاربة الإسلام السياسي إلى محاربة الإسلام نفسه، وبات سلاحها الأمضى في حربها المقدسة هذه: صناعة التفاهة والتافهين.