هل كان أحد في حاجة لزيارة عبد الفتاح السيسي إلى ألمانيا لكي يدرك أن هذا الرجل عنوان لمرحلة هي الأكثر ركاكة في تاريخ مصر؟
هل كانت الزيارة مهمة لكي نفهم أننا بصدد نظام تم صنيعه من بواقي الاستبداد والبلادة الموروثة من تجارب محلية وخارجية، تأسست على أوهام، صنعتها مجموعة من أصحاب المصالح، تماما كما كانوا في الجاهلية يصنعون أصناما من الحجر، يؤلهونها كنوع من الاستثمار والتربح؟
تبدو مدهشة، تلك الدهشة من مهازل مجموعة المهرجين المرافقين لعبد الفتاح السيسي في ألمانيا، فالوجوه هي الوجوه التي تحمل لواء التضليل والتجهيل وتروج لكل ما هو رديء في الداخل، كل ما في الأمر أنها نقلت نشاطها إلى الخارج.
كما أن الخطاب هو الخطاب، سواء خطاب السيسي، الموغل في الخرافة والدجل، المعتمد على قدر هائل من الأكاذيب الملونة، والوعود والآمال، بالطريقة ذاتها التي يسلك بها تجار الأحجبة في سوق الشعوذة، وباعة الوهم في عالم الكيف، فالراجل لم يكن يتحدث للخارج، بقدر ما كان يريد أن يقول للداخل “أنا رئيس ويستقبلونني في أكبر دولة في أوروبا”. باختصار لم يخرج عن المألوف والمستهدف في كل جولاته الخارجية: مزيد من اللقطات والصور التي يضمها إلى الألبوم الرئاسي، بحثا عن شرعية، لا يشعر بها داخله أبدا، مهما تعددت مظاهر تحققها خارج ذاته.
ومن هنا يبدو شيئا مبالغا فيه ذلك التركيز على تحليل مضمون “الخطاب السيسي” وتناول لفتاته وحركاته، وكأننا أمام عرض جديد، بينما المشاهد مكررة والجمل والعبارات معادة، حتى شكل المسرح وطريقة الإخراج البدائية، لم تتغير عما رأيناه في نيويورك وفي باريس وفي شرم الشيخ.
حتى ردود الأفعال في معسكر المعارضة، جاءت هي الأخيرة رتيبة ومكررة حد الملل، كثير من السخرية على هذا الابتذال، وقليل من الأسى على الحضيض الذي وصل إليه مستوى رئاسة جمهورية مصر العربية.
لم يتوقف أحد كثيرا عند مضامين ونتائج هذه الزيارة، حيث كان الاهتمام كله منصبا على الشكل الخارجي، وأزعم أن الهدف الأساسي لعبد الفتاح السيسي منها، هو المقايضة بورقة أحكام الإعدام، بحيث يخفض سقف المطالب في مصر إلى إلغاء أحكام الإعدام، أو حتى تخفيفها فقط، مقابل منح الأوضاع الحالية، بالغة السوء والرداءة والفشل، شرعية الأمر الواقع، تماما كانت زيارته إلى ألمانيا، هي زيارة الأمر الواقع، بكل قبحه، حسب وصف الصحافة الألمانية والعالمية.
وفي أوضاع كهذه يجدر بمعارضي سلطة الانقلاب العسكري في مصر، ألا يبددوا طاقاتهم في إطلاق النكات والإفيهات على النظام وحاشيته، ذلك أن تهافت هذه المنظومة وعبثيتها وهزالها وهذلها، باتت من المعلوم بالضرورة، وليست في حاجة إلى تأكيد، ولا مزيد من المعالجات الساخرة، والتقارير الضاحكة.
ويحسن هنا ألا يستدرج رافضو الانقلاب إلى هذه الكوميديا المصنوعة بعناية فائقة، وحري بهم أن يركزوا في ما هم مستمرون فيه من نضال حقيقي في الداخل، يحتاج إلى توسيع قاعدته، وانفتاحه على كل الأطياف الرافضة لهذا الانهيار الحضاري والإنساني، الذي تتردى فيه مصر.
إن ثمة إشارات تقول إن عبد الفتاح السيسي ونظامه سعداء للغاية بحلبة التنكيت والسخرية المنصوبة على زيارته وأدائه بها، حتى ليبدو أحيانا أنه كلما خفّت حدة “التريقة” ألقى بالمزيد من السقطات والزلات ومنتجات آلة الكلام العكاشية، لكي يواصل المعارضون استنفار كل طاقاتهم في إطلاق المزيد من صواريخ السخرية.
لقد بلغت الحفاوة بهذا الطقس الساخر أن إعلام السيسي أيضا دخل على خط الانتقادات الساخرة لما جرى في الزيارة، وهذا مفيد جدا في لفت الأنظار عما هو جاد، وتبديد الطاقات في ما هو عبثي.
كم شابا اعتقل وكم فتاة اختطفت من معارضي النظام العسكري، وأنتم منشغلون بإذلاق النكات على أسخف نكتة في تاريخ النظم السياسية؟