كنا نتصور، ومعنا الكثير من المراقبين للشأن المصري من خارج مصر، أن سقوط النخب المصرية، هذا السقوط المروع، بعد 3 / 7، وإلى الآن، هو أبر خسائر الانقلاب العسكري بعد فقدان المسار الديموقراطي، وأشدها صدمة، وتراجعًا.
يخبرني غير واحد من أكابر مثقفي لبنان أنهم كانوا يحملقون في الشاشات لا يكادون يصدقون أن “فلانا” من مثقفي مصر هو من يتحدث، محاميا عن الحكم العسكري، وحتمية عودته، والديموقراطية الزائفة تلك التي لم تأت بديموقراطيين، إنما جاءت بأعدائها، فحق عليها اللعنة العسكريتارية، المدعومة من القوى المدنية !
كنا نتقلب على أشواك الأيام السوداء، ونكتوى بجمرها، ظانين، أن هذا هو منتهى ما ستطفح به بالوعة الحياة السياسية المصرية، وآخر ما لدى جروح التاريخ من تقيحات، إلا أننا اكتشفنا مع التفويض، ثم المذابح المتكررة في رمسيس والحرس الجمهوري، والمنصة، ورابعة، والنهضة، وصعيد مصر، وما تلاهم من اعتقالات بالجملة، دون سند قانوني، وتقتيل، وملاحقة على الهوية السياسية، ومصادرة للحريات، واغلاق لنوافذ الرأي، وانفراد بالسلطات التشريعية والتنفيذية مع تطبيع للعلاقات السلطوية مع القضاء الشامخ، كل ذلك وغيره وما واكبه من تأييد وتهليل شريحة اجتماعية بعينها، كان أشد وأمضى أثرا، بحيث بدا سقوط المثقف المصري الخائن أمامه صدى لصوت أكثر إزعاجا وصخبا، صدى الفحيح.
وقت المذبحة، كان السياق مضببا، بما يكفي لالتمتاس بعض الأعذار لبعض الناس الذين لم تصلهم الرسالة على حقيقتها، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا، كان الرسول كاذبا، مضللا، شاشات تنعق بالكذب، ليل نهار، معلومات كاذبة، خرافات جرى ترويجها بوصفها كشف عن خيوط المؤامرة، كان من الممكن، على الأقل بالنسبة لي، وقد أكون مخطئا، أن أتصور أن يتقبل بعضهم، ما حدث من جريمة بشعة في ميدان رابعة، بوصفه معركة بين فريقين متكافئين في التسليح، أحدهما ينفرد باحتكار العنف قانونيا ودستوريا، ومنه تستمد الدولة أحد تعريفاتها، والآخر معتد إرهابي، هنا يمكنني أن أتصور كيف ولماذا مرت المجزرة على هؤلاء المغيبين دون أن يطرف لهم جفن.
الآن، بعد الوعود الكاذبة، وسقوط كل أوراق التوت عن سوءات العصابة التي تحكمنا تحت اسم الدولة، والتوثيق للمذبحة، والتقارير الحقوقية، والأخطر: الفيديوهات، تلك التي تحرك الحجارة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما ()، ومع ذلك نجد من يخبرنا بموافقته، ومبايعته، ومشاركته بالتواطؤ، والتشجيع، على سفك الدماء.
ليس ذلك فحسب، بل إن شهادات بعض نشطاء الثورة الذين حضروا الفض هذا العام، جاءت مذهلة بالنسبة لي على الأقل، في وصفها لفئة بلغت من الحيوانية حدا لم نسمع به في توثيق التاريخ القديم لمذابح ارتكبها أعتى مجرمي التاريخ، وأكثرهم همجية ووحشية.
توقفت عند شهادة أحدهم بعينها، ليس لأنها الأكثر سوءا، ولكن لأنها، بزعمي، الأكثر غرابة، إذا كنا نتحدث عن مصريين، يقول الشاب: كثرت الجثث في ميدان رابعة، ونفدت الأكفان، فاضطررنا أن نلف جثث الشهداء بملاءات ونحن ننقلهم خارج الميدان، حتى لا تحترق جثثهم، يشاهدنا الناس في نوافذ البنايات المحيطة بمسجد رابعة، فيضحكون شماتة وتشفيا ويقولون: لماذا تلفونهم في ملاءات؟ هل جئتم بهم من جهاد النكاح؟!!!
يقول الشاب: أنه لا يستطيع أن ينسى هذه النظرة المتشفية السعيدة بقتل الناس، ويتمى على الله ألا يموت هؤلاء إلا وقد فضحهم الله، لا يستطيع أن يتجاوز الموقف، ولا أن يعفو عنهم، المشهد أكثر قسوة من أن يقوى طرفه المظلوم على عفو ولو نظري عن متواطئ مع ظالم.
وقفت بنفسي على الكثير من ردود الأفعال، ساعة الفض، مبررة عندي نسبيا، وفي الذكرى هذا العام، وصلت إلى درجة إعلان أحدهم، بمنتهى الوقاحة، أن ذكرى رابعة هي ذكرى اهدار جنرالات الجيش للفرصة التاريخية لدك ميدان رابعة بالطائرات والتخلص الكامل والنهائي من كل ما فيه من إسلاميين، يعتبرهم “الحيوان” الآدمي، المصري بكل أسف، أشد خطرا على مصر بما يحملونه من أفكار سياسية، من “إسرائيل” ذاتها !!!
ما فائدة ذلك كله؟ ولماذا نطرحه من الأساس؟ لقد تحالف هؤلاء “الحيوانات” مع العسكر للتخلص من خصومهم السياسيين الذين لم يستطيعوا مواجهتهم وفقا للآليات والاجراءات الديموقراطية، فاختاروا أن يبيدوهم، ولا ينبيك السياق إلا بمعركة صفرية، إما أن يستمر هذا التحالف الحرام، بين هذه الشريحة، ولا أقول الطبقة، من الناس، وبين العساكر، وإما أن يحقق الإسلاميون ما يتصورونه من انتصار نهائي، فينتقموا من هؤلاء، جزاء وفاقا!!
يتصور الكثيرون، إسلاميون، وغير اسلاميين، أن هذا هو العدل، فيما أتصور أن مجرد تصور أن هؤلاء “الحيوانات” ينتظرهم منا القتل، والسحل، والسجن، والإعدامات، بالجملة، هو محض تبن للذهنية الإجرامية التي أنتجت هذا الخطاب الحيواني، ووقوف أعمى على الطرف الآخر من هذه الدائرة الشيطانية التي لا نهاية لها سوى فناء الجميع.
يتور بعض المنتسبين للتيار المدني، أن الإسلاميين، كل الإسلاميين، يتحملون مسئولية كل ما جرى من أخطاء، وخطايا في فترة حكم الإخوان، فيما يعتقد الإسلاميون أن العلمانيين، كل العلمانيين، يتحملون مسئولية خيانة المسار الديموقراطي، ومن ثم خيانة الثورة، والتحالف مع العسكر، ثمة صنف آخر ممن لم يشربوا من نهر “الجنون” يعتقدون أن محاسبة المخطيء، أو المجرم، يجب أن تتم وفقا لعملية شديدة الحذر، والتمييز، والفرز، وعدم التعميم، وأنه لا وجود لما يسمى بـ “الإخوان فعلوا”، العلمانيون تحالفوا”، النشطاء أخطأوا”، الإعلاميون خانوا” كل هذه التعميمات تفتقر إلى “العدل”، وهو المحدد الذي أتصور أنه المنقذ الوحيد من الغرق في هذا المستنقع، العدل دون غيره، في العقاب قبل الثواب، وفي التمييز بين من يستحق، ومن لا يستحق، وفي التمييز بين مستويات العقاب وفقا لمستويات التورط، وفي حتمية التجاوز، لبعض ما جرى، ليس لمصلحة المخطئين، قدر ما هو لصالحالذين أخطيء في حقهم، من التيارين على السواء.
لقد نزلنا في 25 يناير، ونحن نزعم المطالبة بدولة الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، وأي انحراف عن هذا المسار، بدعوى القصاص، أو التخلص من أعداء الإنسانية، لا يعني، سوى أن الطرف الأكثر حيوانية نجح في تعميم تجربته، وجرنا إلى مربعه الذي نزلنا بالأساس ضده، وضد دولته، إن جوهر فكرة التسامح، ليس أن تتسامح مع مختلف معك يطرح أفكارا مغايرة تضايقك، بل أن تتسامح مع الحيوانات التي تعيش بيننا، طالما كان ثمة قانون يفصل بين بيوتنا وحظائرها، ويمنح الجميع تحققا في مجاله، واحتراما لحق الآخرين في مساحات التقاطع، أحاول هنا أن أجعل من الذكرى فرصة للمطالبة بالحقوق، وبالتوثق من أننا لم نفقد أنفسنا في الطريق إلى هذه الحقوق، سنرجع يوما، فقط لو كان لرجوعنا معنى مغايرا لما نحن فيه الآن، أما إذا تحولنا دون أن ننتبه إلى صورة من أعدائنا، فما قيمة الرجوع؟