لا يمكن فهم ما يحدث في أوربا دون ربطه بقضية اللاجئين. هذه القضية التي تحمل تهديدا حقيقيا ليس فقط لاقتصاديات العديد من دول أوربا المنهكة، ولكن تهديدا لوحدة دول الاتحاد الأوربي، واحتمالية تفكيكه!
خطورة قضية اللاجئين على أوربا تتمثل في ثلاث تحديات رئيسية:
- أعباء اقتصادية: فكثير من هؤلاء اللاجئين سيمثلون عبئا على اقتصاديات دول الاتحاد التي يعاني كثير منها أصلا!
- تهديدات ديموجرافية: فالغالبية الساحقة من هؤلاء اللاجئين هم من المسلمين، الذين ترى فيهم أوربا بشكل علني أو خفي تهديد كبير لمسيحيتها! وعينها على زيادة نسبة المسلمين في القارة بعد جيل أو اثنين ربما على الديانة المسيحية نفسها! أي أن أوربا بدون مبالغة مهددة بأن تصبح مسلمة!
- تهديد بتفكك الاتحاد الأوربي: فهناك اتفاقيتان من أهم الاتفاقيات التي تضبط قواعد الاتحاد الأوربي مهددتان الآن بالانهيار:
الأولى اتفاقية شنجن عام 1985، والتي ألغت جواز السفر وضوابط الهجرة على الحدود المشتركة الداخلية بينهما. هذه الاتفاقية تسمح بحرية التنقل داخل حدود دول الاتحاد، بمعنى أن من يحصل على تأشيرة دخول لدولة كهولندا مثلا، لا يأخذ تأشيرة لهولندا، وإنما تأشيرة شنجن، تتيح له السفر إلى هولندا ومنها إلى أي دولة أخرى داخل الاتحاد. يمكنه أن يتنقل عبر الحدود إلى ألمانيا ومنها إلى باريس عبر القطار ثم إلى إسبانيا أو إيطاليا …إلخ
التهديد المحيط بهذه الاتفاقية أن كل اللاجئين السوريين يرغبون في الذهاب إلى دول غرب أوربا الغنية؛ تحديدا إلى ألمانيا أو فرنسا على أقل تقدير، ولا يريدون المكوث في دول شرق أوروبا الفقيرة
كالمجر وصربيا أو حتى النمسا. وبالطبع لا تريد ألمانيا أو فرنسا أن تستقبل غالبية اللاجئين وحدها، مما دعاها للضغط على دول شرق أوروبا لمنع اللاجئين من السفر إلى ألمانيا.
الثانية هي اتفاقية دبلن للاجئين عام 1990، وتعديلاتها في اتفاقية دبلن 2 عام 2003؛ والتي تقضي بأن تقع مسؤولية النظر في طلب اللجوء المقدم من أحد اللاجئين (من غير رعايا الدول المنضمة لاتفاقيه دبلن) على أول دولة عضو يصل اللاجئ إلى حدودها أو يوجد على أراضيها وتؤخذ فيها بصمته.
التهديد المحيط بهذه الاتفاقية أن دول غرب أوربا الغنية وعلى رأسها ألمانيا بدأت تضغط على دول شرق أوربا لإجبار اللاجئين على أخذ بصماتهم فيها أولا، مما يعني أن اللاجئ سيعود إلى أول دولة أوربية وصل إليها وتم أخذ بصماته فيها (النمسا أو المجر أو صربيا) حتى وإن وطأت أقدامهم أرض ألمانيا أو فرنسا!
***
أخطر ما في قضية اللاجئين أن كثيرا من شعوب أوربا تعاطفت معها، ومع طوابير اللاجئين التي تقطع المسافات بين الدول سيرا على الأقدام، وصورة الطفل السوري الذي مات غرقا على شواطئ تركيا كسبت تعاطف الشارع الغربي كله، مما جعل حكومات هذه الدول في موقف صعب، ففتح باب اللجوء على مصراعيه سيجلب الكثير من التحديات التي ذكرنها، وغلق باب اللجوء في وجوههم سيقوض الاتفاقيات الحاكمة لدول الاتحاد ومن قبلها سيقوض مصداقية الاتحاد ذاتها، ومصداقية حكوماته التي ترفع شعارات الحرية وحقوق الإنسان، وتساوي بين من يدعي الليبرالية في أوروبا وبين اليمين المتطرف!
تفجيرات باريس جاءت صادمة بحق للشارع الأوربي، ولم يتم الاكتفاء بتفجيرات فقط! فصوت إطلاق الرصاص المتواصل والممتد في دائرتين كاملتين في العاصمة باريس (العاشرة والحادية عشرة)، واحتجاز رهائن في مسرح باتاكلان لثلاث ساعات كاملة قبل قتل غالبيتهم، هو محاولة لتغيير الرأي العام الفرنسي والأوربي بصفة عامة من الترحيب باللاجئين إلى الخوف الشديد منهم وربما التحريض عليهم!
وما يؤكد هذه التخوفات أن أجهزة الأمن الفرنسية قبل حتى أن تحصي العدد النهائي للضحايا أعلنت أن أحد منفذي العملية قادم مع اللاجئين السوريين! رغم أن سوق استخراج هذه الجوازات رائج للغاية هذه الأيام ويمكن استخراجه بسهولة! ثم الإعلان لاحقا أن ثلاثة مسلمين فرنسيين مشاركون في العملية، لتسليط الضوء مجددا نحو الأقلية المسلمة في فرنسا! وكلنا يذكر مواقف اليمين الفرنسي العنصرية ضد المسلمين والأقليات في فرنسا حين كان ساركوزي وزيرا للداخلية! فماذا يكون الحال بعد هذه الهجمات؟؟
وبالفعل عاد ساركوزي إلى واجهة الأحداث ومعه جان ماري لوبان زعيمة اليمين المتطرف التي تحرض علنا على المسلمين الفرنسيين، فما بالكم باللاجئين غير الفرنسيين القادمين من سوريا؟ الآن يحاول ساركوزي توحيد صفوف اليمين قبل الانتخابات الإقليمية الشهر القادم وربما قبل الانتخابات الرئاسية بعد عام!
وإذا كانت أفكار اليمين لا تناسب الشارع الفرنسي الذي طالما اعترض عليها، إلى الحد الذي هدد فيه منتخب فرنسا لكرة القدم بعدم اللعب في كاس العالم 2002 إذا فاز لوبان والد زعيمة اليمين المتطرف حاليا وزعيم الحزب وقتها، فإن تفجيرات كهذه ستجعل كثيرا من الفرنسيين يعطون أصواتهم لهذا اليمين المتطرف، تحت تأثير الإرهاب الذي تعرضوا له.
نجحت استراتيجية التوتر في فرنسا، ونجح التخويف في تغيير قناعات الناس، وبدأ الرأي العام الغربي يضغط على حكوماته لاتخاذ مواقف تريد بالفعل هذه الحكومات اتخاذها، دون أن يتهمهم أحد أنهم ضد حقوق الإنسان، أو أنهم غير متعاطفين مع قضية اللاجئين!
المستفيد من هذه التفجيرات هي الأنظمة المستبدة في المنطقة التي يعاد إنتاجها وتصويرها على أنها تحارب الإرهاب الذي بدأت أوربا تذوقه، وهي نفس العبارة التي استخدمها المجرم بشار الأسد في رسالة “التعزية” لفرنسا! والمستفيد منها أيضا هو اليمين المتطرف الذي يخشى على أوربا المسيحية من المسلمين، ولا يستطيع أن يمنعهم بالطرق السياسية وعبر الانتخابات! أما الآن فيمكن طرد كل اللاجئين من أوربا وغلق الأبواب في وجوههم بدعوى محاربة الإرهاب دون أن يلوهم أحد!