لا توجد دعاية أساءت إلى الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي أكثر من الخطاب المنسوب إليه الذي وصف فيه رئيس الكيان الصهيوني بيريز بـ”عزيزي”!.
ولم يجر توظيف الخطاب في الحملة على مرسي بعد الانقلاب العسكري فقط، فالتوظيف كان قبل ذلك بكثير، وبعد أن تم تسريب الخبر للصحف بفعل فاعل، وبدت الرئاسة حينئذ مسلوبة الإرادة، فلم توضح الموقف، وعندما تم التوضيح جاء دبلوماسيًا، لا ينفي اتهامًا ولا يلغي الرسالة، فقد قال أحد عناصر طاقم الرئاسة إنه خطاب بروتوكولي، وإن الصياغة متوارثة، وكأن المطلوب من أول رئيس مدني وبعد ثورة عظيمة أن يستخدم المطبوعات ذاتها، والأكليشيهات، التي تم العثور عليها في القصر الرئاسي، وكان يستخدمها من سبق لقادة من الكيان وصفه بأنه كان كنزًا استراتيجيًا لإسرائيل!.
وكانت قد وصلت إليَّ مبكرًا معلومة من أحد المقربين من موظف كبير بالرئاسة، أن الخطاب تم دسه على الرئيس، وقلت هذا في مقابلة تلفزيونية، ومن موقع المعارض، لأنني في معارضتي لا تستهويني فكرة اختراع أدلة إدانة أتمكن بها من رقبة الخصم، وتوقفت بعد ذلك عن الترويج لمعلومة “الدس”؛ لأن من قالها لا يرتقي لمستوى المصدر الصحفي، ولأن مسؤولاَ بالرئاسة لم يقل بما قلته، وقد توقفت عن استخدامها تمامًا بعد الانقلاب، مع أننا نواجه خصومًا يفتقدون للحد الأدنى من الموضوعية، لأنهم في موقعهم المنحاز للانقلاب وقائده، عندما لا يجدون دفاعًا فإنهم يهرعون للأكاذيب؛ كما قال أحدهم إن مرسي هو من أفرج عن الإرهابيين، ورغم أنني رددت عليه بأن الإفراج تم عن السواد الأعظم منهم في عهد المشير محمد حسين طنطاوي، ومن أدين منهم بحكم من المحكمة العسكرية برأته المحكمة نفسها بعد الثورة، فمع ذلك استمر هو وغيره يعزفون هذه الأسطوانة المشروخة، لكنهم كانوا يواجهون في كل مرة بمن يرد عليهم، ويجعل من اتهامهم هشيما تذروه الرياح!.
ولم يتوقف هؤلاء عن استدعاء “عزيزي بيريز”، كلما ضبط السيسي متلبسًا بعلاقة مع “إسرائيل”، التي يتقرب إليها بالنوافل؛ لأن انقلابه يستمد شرعيته من التأييد الإسرائيلي الذي جلب الرضا الأميركي والأوربي، ووصل الحال حد أن دبلوماسيًا إسرائيليًا سابقًا في القاهرة، يعلن أن مصر و”إسرائيل” على سرير واحد، ونسي أن يقول ويمارسان “الخطيئة” في صحة الأمن القومي المصري!
لم أعد بحاجة لاستدعاء معلومة تفتقد للدليل عن أن الخطاب “دس على الرئيس”، فالرئاسة نفسها لم تقل ذلك، ولم يقل أحد من ضواحيها هذا الكلام، لكن القرائن التي ترتقي لمرتبة الدليل، هي في أداء الرئيس مرسي الذي فتح باب المعبر أمام أهل غزة، وأوقف حصارها، ويوم أن تعرضت لعملية إجرام غادرة من جانب الكيان الإسرائيلي، كانت إدانته القوية وخطابه الذي أعلن فيه “إن مصر لن تقف مكتوفة الأيدي.. ولن نترك غزة وحدها”، كاشفًا عن أن مصر قد تغيرت، وأن رئيسها صار يعبر عن الشعب المصري، الذي يرى أن القضية الفلسطينية هي قضيته المركزية وليست شأنا فلسطينيًا.
بيد أني لا أنكر أن خطاب “عزيزي بيريز” ظل يمثل مشكلة ضمن مشاكل أخرى كان يمكن الرد عليها مبكرًا، ومن بينها الحملة التي قامت بها الأذرع الإعلامية للثورة المضادة لنفس الإنجاز المهم للرئيس محمد مرسي بعزله وزير الدفاع ورئيس الأركان، وهي كانت ضربة مهمة لتعزيز فكرة الرئيس القوي، وأكثر مما نال من الرئيس محمد مرسي هو ما أشاعه الإعلام من أنه رجل به ضعف.
وقد استسلم لفكرة ادعاء التواضع، التي استغلتها الدعاية في إشاعة أن المشير طنطاوي والفريق سامي عنان هما من قدما استقالتهما؛ لأنه عز عليهما العمل تحت “إمرة مدني” هو محمد مرسي، وأن طنطاوي هو من اختار السيسي ليخلفه، ولم يكن تعيينه وزيرًا للدفاع هو قرار الرئيس مرسي، وذلك على غير الحقيقة!.
وترك الرئيس في سماحة غير مبررة، القوم يقومون بصياغة أدلة لتأكيد ذلك، بإنشاء نفق ومسجد ضخم يحملان اسم طنطاوي، وتم إقالة رئيس تحرير جريدة “الجمهورية”، بحجة نشره لخبر أغضب “طنطاوي” المقال، ولم يكن الأمر صحيحًا، فإقالته تمت لأنه لا يسمع كلام “الرويبضة”، الذي اختير على عرش مجلس الشورى، ليصبح مسؤولاً عن المؤسسات الصحفية القومية، مع أنه لم يضبط متلبسًا مرة في حياته بقراءة صفحات “الوفيات” في “الأهرام”، وكان يتدخل في عمل رئيس التحرير لدرجة طلب نقل محرر من قسم إلى قسم، ولأن طلباته لم تكن أوامر عند رئيس التحرير، فقد أقاله، بحجة أن الجيش غاضب، ولم ينفذ أحكام القضاء التي قضت بعودته لمنصبه، واللافت أن من نفذها هو الانقلاب العسكري!
في الأسبوع الماضي قطع الدكتور “سيف الدين عبد الفتاح” قول كل خطيب، وروى في مداخلة تلفزيونية الحكاية، فقد دُس الخطاب على الرئيس من موظف في الحرس الجمهوري، وعندها قيل “يا داهية دقي”، فبدلاً من الترويج لهذه الرواية المهمة وجدتها جماعة “التكفير والهجرة” في تيار الشرعية ورفض الانقلاب، فرصة عضت عليها بالنواجذ للاستمرار في عملية النيل من الرجل والإساءة إليه.
هذه الجماعة ترى أنها تملك الحقيقة المطلقة، وأن ما عداها في الضلال المبين، وأنها تمثل الفئة الناجية، وما عداها في جهنم وبئس المصير!
وهي جماعة لا تفرق بين “سيف الدين عبد الفتاح” و”معتز عبد الفتاح”، وكانت هذه مناسبة لاستدعاء استقالته من منصبه كمستشار للرئاسة في عهد محمد مرسي، عقب الإعلان الدستوري الشهير، واتهامه في برنامج تلفزيوني الرئيس بالمسؤولية عن الدماء التي أريقت حول القصر الجمهوري المحاصر!
جماعة “التكفير والهجرة” كانت برئاسة شكري مصطفى، الذي كان يكفر الجميع ما عدا أعضاء جماعته، وإذا كان من الجائز أن يعلن في شجاعة عرف بها لمأمور السجن “أنت كافر ورئيسك كافر ومن لم يكفركما فهو كافر”، كل هذا تحت التعذيب، فقد كان المدهش أنه كان يكفر الإخوان المسلمين جيرانه في السجن وشركاءه في التعذيب!
في تيار الشرعية، فإن جماعة “التكفير والهجرة” الحديثة تترأسها زميلتنا “آيات عرابي”، التي تقود مسيرة التكفير لكل من يختلف مع وجهة نظرها، وهذه الجماعة لا تناقش استقالة الدكتور “سيف” في سياقها، فقد كانت بعد الإعلان الدستوري حيث لم يضع الرئيس مستشاريه ووزراءه “في الصورة” ولو لمناقشة تداعياته، وإنما استمع لمن جيء به ليكون مستشارًا قانونيًا لمؤسسة الرئاسة دون خبرة في مجاله، ودون أن يكون أهلاً للعمل بمؤسسة الرئاسة، في بلد فيه أساطين الفكر الدستوري، وهو خيار خاطئ منذ البداية ثبت خطؤه باستقالة الفتى عندما وجد السفينة تغرق، مع أنه من ساعد في خرقها وتمكين الأعداء منها!
جماعة “التكفير والهجرة” استدعت هذه الاستقالة وكأنها ترضى للرجل أن يكون “طرطورًا” ومستشارًا لا يؤخذ رأيه في القرارات الكبرى، وهو القرار الذي لم يؤخذ فيه رأي وزير العدل وهو من أهل الاختصاص، وفوجئ به نائب رئيس الجمهورية، وعندما يسقط الانقلاب فسيكون من الضروري أن نعرف هل هو قرار الرئاسة أم قرار الجماعة؟!
لقد كنت من القلائل الذين دافعوا عن الإعلان الدستوري، رغم أني كنت من معارضي الرئيس، لكني لم أكن مستشارًا للرئيس يستوجب منه أن يحيطني علما بالأمر، فدلفت للموضوع مباشرة، ولم أهتم بالشكل، أما بالنسبة للدكتور “سيف عبد الفتاح”، ومن هم من جماعة الحكم، فالشكل عندهم جزء من النظام العام، يمتنع الخوض في الموضوع دون استيفائه، بلغة أهل القانون، وعند تعامل القضاء مع القرارات الإدارية.
ومهما يكن، فقد كانت هذه الاستقالة المبكرة تشفع للدكتور “سيف” وربما تقربه من الانقلاب العسكري، لكنه ومع أنه أكاديمي، لم يكن ينتظر منه موقف مغامر، فقد تحول إلى شخص آخر وهو يواجه هذا الانقلاب ببسالة، ويتعرض للانتقام والتطاول والفصل من الوظيفة من أجل موقفه الشجاع، بل ويهاجر للخارج هربًا من آلة البطش، وما كان أغناه عن كل هذا!
لكن جماعة “التكفير والهجرة” صار بأسها على رفقاء الميدان شديدًا، فلا تلتمس للمختلفين معها العذر، ولو من باب العذر بالجهل، فليس كل الناس من “أهل الحقيقة” بحسب المفهوم الصوفي، وليس كلنا من سلالة “سيدنا الخضر”، ومن أهل “العلم اللدني” الذي هو عماد المعرفة بالله، وبدلاً من أن تأخذ الجماعة ما قاله الدكتور “سيف الدين عبد الفتاح”، وتروج له لتسد أفواه عملاء الانقلاب وأذياله، تم استدعاء الاستقالة للإساءة للرجل المتهم بالتخلي عن مرسي في محنته!
وعندما يقال لأهل التكفير إن هذا كلام مهم، يكون القول ولماذا تأخر في إعلانه؟!
ربما لم تكن هناك مناسبة، وربما مناسبة الإعلان أنه سئل فأجاب، وربما لم تكن المعلومة متوفرة لديه من قبل!
فلم يشغل أحد من أعضاء التنظيم باله بذلك، بل لم يشغلوا بالهم بأن الرئاسة نفسها قد صمتت فلم تذكر الحقيقة لأسباب مرتبطة بالبؤس في إدارة الدولة، وربما لتغلب فكرة أنه لا يجوز الإساءة للجيش بفعل عنصر من عناصر الحرس الجمهوري، فكانت الإساءة للسلطة الحاكمة في ملف كان يكفي لإغلاقه إجراء معلن بإقصاء الضابط، أو إحالته للتحقيق، وإن كان أحد من المفروض أن يؤاخذ بهذه الجريمة فلن يكون الدكتور سيف عبد الفتاح وإن تقاعس في إعلان الحقيقة، فالآخرون لم يعلنوها وهم في القصر!
وقد تم تبديد دليل براءة مهم كالذي قدمه “سيف الدين عبد الفتاح”، لأن الجماعة خالدة الذكر، مشغولة بالانتقام من الدكتور سيف لأنه مختلف مع معتقدات أهل التكفير والهجرة.
“حوالينا لا علينا”.