بائع الشاي الفقير الذي لقي حتفه برصاصة أمين شرطة، في القاهرة الجديدة أمس، لم يكن معنيًا بثرثرات نخبة زمن السيسي بشأن السؤال السرمدي: القيم موضوعية أم ذاتية؟ معايير حقوق الإنسان عالمية أم محلية بيئية؟
كل ما يتذكره زميلا بائع الشاي الشهيد أن أمين الشرطة صوّب رصاصة إلى رأسه، والشمس طالعة، وعلى مشهد من جميع المارة، لخلافٍ على ثمن الشاي، أو ربما لم يعجبه المذاق، فتعكّر المزاج، فقرّر أن يعدله بالرصاص.
“بوعزيزي مصر الجديد” لا يعرف فرانسوا هولاند، ولا أسماء ضيوفه اللامعين، ولا يهمه ما إذا كانت رئاسة عبدالفتاح السيسي من اختارت الضيوف أم أن الدعوة كانت من السفارة الفرنسية في القاهرة.. ما يعرفه، ويعرفه زملاؤه، أن دمه كان يجري على أرض الطريق، على نحو أسرع من وتيرة الجدل حول لقاء الرئيس الفرنسي بسياسيين ومثقفين مصريين، بعد ساعات من مكافأته نظام عبدالفتاح السيسي على إرهابه وإجرامه وفاشيته.
أراد هولاند أن يتجمّل، أو يغتسل من مباحثات وصفقات دعم الفاشية، بلقاء مع نخبٍ تبدو من بعيد معارضةً ومستنيرة، لكن أكثرها أكثر ظلامية وانتهازية من السيسي نفسه.
مضحك جدًا أن تصعد رغاوى “اللائكية” إلى السطح في مصر، استباقًا لزيارة المسؤول الفرنسي الرفيع، واللائكية هي العلمانية على الطريقة الفرنسية؛ حيث تقطع شوطًا أبعد في مسألة الفصل بين الدولة والمجال الديني، بحيث يبقى الأخير متحرّرًا من النظام العام.
لعبدالفتاح السيسي وانقلابه مجموعة من اللائكيين واللائكيات، يظهرون على السطح كلما أراد الجنرال مغازلة فرنسا، ومداعبتها، فينتشرون في أوركسترا موحدة، يعزفون ألحانًا باريسية، بطريقة بائسة ومضحكة، بالتزامن مع زيارة رسمية إلى باريس أو العكس.
بدأت ظاهرة صعود اللائكيين المصريين مع فرقة “الشوباشية” في العام الماضي، مع ذهاب السيسي إلى باريس، للمشاركة في كونشيرتو الحزن العالمي على “شارلي إيبدو”، ورأينا الفرقة تعزف لحن ضرورة خلع الحجاب وحرقه في مصر؛ حيث انتشرت مجموعاتٌ من باعة التديُّن الفاسد الجائلين على الشاشات الانقلابية، وأولئك الذين حشدوا لمليونية الخلع والقلع، رافعين شعار “احرقي حجابك في حب مصر”، أو أصحاب هولوكوست الكتب الإسلامية في المدارس، ممّن اعترفوا بأنهم فعلوا ما فعلوه بإيعازٍ من جهات سيادية.
بدت زوبعة شريف الشوباشي، الكاتب العائش في الحالة الفرنسية وكأنها كانت مطلوبة لوقت محدد، سرعان ما خمدت بعدها في فنجان الزعيم، صاحب صيحة تجديد الخطاب الديني، الإسلامي طبعًا، كوسيلة للتزلف إلى فرنسا؛ إذ انتهى الأمر إلى طقسٍ ساخر من المؤدين على خشبة المسرح، حتى اختفوا، ولم نسمع عنهم خبراً مدة عام كامل.
الآن، ومع زيارة رئيس فرنسا إلى قاهرة عبدالفتاح السيسي، جرت عملية استدعاء لبعض صغار الشوباشية اللائكية، وفتحت لهم نقابة الصحافيين أبوابها وقاعاتها لعقد مؤتمر عالمي، حضره حشد هائل، يقدّر بعدد أصابع اليد الواحدة، لإطلاق الحملة القومية لقلع النقاب، تحت شعار” امنعوا النقاب”، والتي طالبت بمنع ارتداء النقاب، وأعلنت عن جولاتٍ في مختلف المحافظات المصرية لتحقيق هذا الهدف “الفرنساوي” النبيل، بل والتقت رئيس جامعة القاهرة، اللائكي الفرانكفوني أحيانا، والأنجلو ساكسوني في أحيان أخرى، والذي استقبل كبيرة الشوباشية، وبعض صغار الاستنارة الانقلابية العسكرية الفاشية.
السيسي وتابعوه بلاشفة إذا ما كانت الوجهة روسيا، أو جاء بوتين إلى مصر، كما حدث في أكتوبر الماضي، حين اكتشفت مصر السيسية أن “الشيوعية هي الحل”، وراحت جيوش إعلام وثقافة الجنرال تبشّر بالفكر الأحمر، وانطلق سباق محموم نحو “بَلْشفة” الدماغ المصرية، بترويج أن روسيا بوتين هي الخير كله. وتحوّل الجميع، من رأس الدولة، ممثلاً في السيسي ووزير خارجيته، إلى مؤخرتها الإعلامية، إلى دعاة ومبشرين بالأفكار والمبادئ والطموحات السوفييتية القديمة التي لم يعد يتذكّرها الروس أنفسهم.
وهم فرانكفون، إذا شد الرحال إلى فرنسا، وأميركان إذا أراد شيئاً من واشنطن، ولا يمانعون في “السعودة” إذا ما جاء الملك، أو استقبل جنرالهم، أو وضع في حسابه ثمن جزيرتين، لكنهم، في كل الأحوال، يمكن أن تطلق عليهم “مناشفة” إذ يحملون المناشف طوال الوقت لسلطةٍ غارقة في وحلها الحضاري.