للأسف لم تفوت أبواق الإعلام الموجه في مصر الحدث التركي وراحت تروج للكثير من المغالطات والأكاذيب حول محاولة الإنقلاب التركي الأخيرة.
المغالطة الأولي: ما حدث ليس إنقلابا وإنما مؤامرة من الحكومة لتصفية خصومها.
وهنا يروج هؤلاء أن كل الانقلابات السابقة كانت ناجحة فكيف يفشل هذا الإنقلاب. هم يقولون هذا بعد أن تراقصوا طربا في الساعات الأولى للانقلاب الفاشل وتسابقوا في الإشادة بالجيش وذلك بدون أدنى قدر من الحياء.
لكن الجديد في محاولة الانقلاب الأخيرة ليس طبيعة الإنقلاب وإنما في الدولة التركية ذاتها والتي تتجاهلها هذه الأبواق، فهذه الدولة – تحت حكم حزب العدالة والتنمية وبقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان ورفاقه في الحزب – قطعت 14 عاما في طريقها نحو الديمقراطية. وبالتالي الدولة التركية تحتل مكانة جيدة في سلم الديمقراطية، وهي دولة قوية بمؤسساتها السياسية المنتخبة، وقوية بنخبتها السياسية الواعية من كافة الأحزاب ومن المجتمع المدني التي رفضت الإنجرار وراء مغامرات الإنقلابيين، وقوية بشعبها الواعي المدرك لعبثية وكارثية تسليم البلاد من جديد لحكم عسكري كان سببا في كثير من المشكلات في الماضي ولم ينجح في أي دولة لا في تحقيق الإستقرار ولا في معالجة المشكلات الاقتصادية، وقوية باقتصادها القوي حيث هناك رجال أعمال وطنيون ومصالح اقتصادية لا يمكن المغامرة بها ووضعها في يد حفنة من الجنرالات الذين لا يهتمون إلا بمصالح ضيقة.
المغالطة الثانية: تركيا دولة سلطوية وليست ديمقراطية.
الحقيقة وما تخفيه أو تجهله الأبواق والأذرع الإعلامية هو أن الإنقلابات لا تنجح إلا في الدول الضعيفة أو التي تعاني نخبتها السياسية من الفشل والانقسام والفساد كما حدث في كثير من الدول الأفريقية والآسيوية واللاتينية حيث كانت النخبة السياسية من كافة التيارات قصيرة النظر ولا تقدر عواقب أفكارها العبثية وتستخف بمواقفها الكارثية.
أما في الدول الديمقراطية فمن الصعوبة أن تنجح فيها الانقلابات العسكرية. وتركيا دولة ديمقراطية ليست كالدول الأوروبية بالقطع ولكنها قطعت شوطا كبيرا في تحقيق معايير النظام الديمقراطي وهي في طريقها إلى استكمال طريقها نحو الديمقراطية.
ومشكلة أبواقنا الإعلامية هو تجاهلها الحديث عن الحرب الشرسة على الرئيس التركي وعلى حزبه وعلى تجربته السياسية بأكملها منذ سنوات، والتي تشارك فيها الأطراف الإقليمية والدولية التي ساهمت في إجهاض الثورة المصرية والثورات العربية. والسبب الأساسي لهذه الحرب هو استقلالية القرار السياسي التركي ودعم تركيا للثورات العربية. هذه الأبواق تتجاهل هذه الحرب الشرسة وتتحدث فقط عن ردود فعل الحكومة التركية عندما تواجه هذه الأطراف والتي شملت بالطبع التضييق على بعض الحريات والحقوق هناك.
وهؤلاء بأفعالهم هذه يناقضون أنفسهم لأنهم يتعايشون على تبرير كل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مصر والتي لم تشهد لها مثيلا من قبل.
المغالطة الثالثة: فشل الإنقلاب سيؤدي إلى إغراق تركيا في صراع دموي كما يروج أو يتمنى البعض من تلك الأبواق أو بعض السياسيين في مصر.
الحقيقة أنه لا يوجد مقدمات لهذه التوقعات أو الأمنيات. فما يجهله هؤلاء هو أن معظم الدول التي تمر بتحول ديمقراطي تشهد محاولات انقلابية، بعضها ينجح في إعادة البلاد إلى الوراء كما حالة نيجيريا مثلا في افريقيا أو بنغلاديش وباكستان وتايلند في آسيا للأسباب السابق الإشارة إليها وبعضها الآخر يفشل. وهنا يمثل فشل الانقلاب فرصة ذهبية يتم استثمارها في استكمال التحول الديمقراطي واستكمال معالجة العلاقات المدنية العسكرية للوصول إلى هدف مزدوج هو تقوية المؤسسات الديمقراطية وحكم القانون وحماية الحريات من جهة وإخراج الجيش من السياسة وتقويته وتعزيز جاهزيته وتحويله إلى مؤسسة مهنية محترفة من جهة أخرى.
حدث هذا في اسبانيا التي شهدت عام 1981 محاولة انقلابية تصدى لها الملك وكافة القوى السياسية وتم بعدها محاسبة الإنقلابيين بقوة وتطهير الجيش منهم ومعالجة العلاقات المدنية العسكرية في عدد من السنوات انتهت بأن أصبحت البلاد أكثر ديمقراطية والجيش أكثر مهنية.
وهذا ما أتوقع حدوثه في تركيا برغم الصعوبات التي تواجهها في الداخل والخارج.
لا تريد الأبواق الإعلامية أيصال حقيقة أن هذه العملية – عملية ترسيخ الديمقراطية وإخراج الجيوش من السلطة ومن السياسة- تحتاج أولا إلى الانتقال إلى الديمقراطية وتقوية النظام الديمقراطي ذاته، أي تقوية المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ووجود قيادات ونخب سياسية ديمقراطية واعية، ووجود رؤية واقعية ومعلنة لهذه المؤسسات والقيادات الديمقراطية لمعالجة العلاقات المدنية العسكرية، ووجود ضغط شعبي مستمر. وبدون وجود هذه الشروط لا يمكن الشروع في الأساس في معالجة العلاقات المدنية العسكرية. وهذه الشروط متوفرة في الحالية التركية.
هناك بالطبع عوامل أخرى مهمة تتصل بالسياق والظروف الداخلية وهيكلة الجيش من الداخل، والعوامل الخارجية وعلاقات الجيش الخارجية وغير ذلك. هذه العوامل قد تعرقل أي معاجلة للعلاقات المدنية العسكرية في تركيا أو في أي دولة لكنها ليست عوامل حتمية كما يتصور أو يروج البعض، فعالم السياسة عالم التدافع وصراع الإرادات وإذا توفرت الشروط المذكورة أعلاه فالأقرب هو نجاح القيادات والنخب والأحزاب السياسية كما حدث في كثير من الدول.
المغالطة الرابعة: وضع قوات الأمن والمخابرات أمام الإنقلابيين فيه خطر على الجيش وأنه لا يصح أن يقتل الجنود في الشوارع وأن هناك حقوق إنسان لابد من مراعاتها.
في هذه المغالطة الكثير من الخلط. فأولا ليس صحيحا أن من أفشل الانقلاب هو قوة قوات الأمن والمخابرات وليس صحيحا أن هذه الأجهزة موالية للرئيس. فالتحول الديمقراطي الذي دعمته حكومات حزب العدالة والتنمية لم يقوي المؤسسات الديمقراطية والأحزاب والشعب فقط وإنما هو أيضا يقوي الجيش والأمن والأجهزة المخابراتية وكل مؤسسات الدولة الأخرى ويجعل ولاء هذه الأجهزة والمؤسسات للوطن والدستور في المقام الأول ويجعلها أكثر “ديمقراطية” من نواح كثيرة، تربوية وتعليمية وثقافية ومؤسسية.
وهذا ما حدث إلى حد كبير في تركيا التي صار شعبها أكثر وعيا وصارت أحزابها أكثر إدراكا لمخاطر الحكم العسكري وصارت مؤسساتها الأمنية والمخابراتية أكثر مهنية وأكثر ولاء للدستور والقانون. هذا كله هو الذي أحبط المحاولة الإنقلابية بجانب قوة الحكومة والمؤسسات السياسية ومهارة السياسيين والمسؤولين.
أما حالات القتل التي حدثت فأمر متكرر في كل الانقلابات التي غالبا ما تشهد إما قتل الإنقلابيين لأعضاء الحكومة وأنصارهم أو إرسالهم لمحاكم صورية في حالة نجاح الإنقلاب، أو معاقبة الحكومة القائمة لكل من خطط ونفذ محاولة الإنقلاب في حالة فشل الإنقلاب وذلك حتى ترتفع تكلفة أي تحرك من أي إنقلابيين في المستقبل. هذه سنة كونية، لكني أرى أيضا أن معاقبة الإنقلابيين لابد أن يتم في إطار الدستور والقانون وبدون أي تجاوزات لحقوق الإنسان.