مشهد الشعب التركي وهو ينزل الى الشوارع استجابة لنداء أردوغان عبر جهاز الأيفون ودخوله في مواجهات شرسة ضد العصابات الانقلابية بصدور عارية لحماية مساره الديمقراطي وحماية دولته ورئيسه وتجربته قدم درسا كبيرا لكل شعوب الأرض التي تتوق الى الحرية والى العيش الكريم بعيدا عن هيمنة العسكر ودولة الاستبداد.
هذا المشهد البطولي، وهذه الفطنة الكبيرة التي تميز بها أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وسرعة التحرك في فترة وجيزة لا تتجاوز أربعة ساعات من الاعلام بمحاولة الانقلاب، وقدرتهم على إنزال الشعب إلى الميادين، والتحرك بشكل سريع منظم ودقيق أفشل الانقلاب في مدة لم تتجاوز 5 ساعات وإعادة السيطرة بشكل كامل على الأوضاع من جديد، واعتقال العصابات الانقلابية، كل هذا جعلني أطرح السؤال التالي : لماذا فشل الانقلاب في تركيا بينما نجح الانقلاب في مصر؟
أعترف من باب الأمانة العلمية أن الجواب عن هذا السؤال صعب للغاية لأنه يحتاج إلماما بكل تفاصيل الانقلاب التي وقعت في مصر والخفايا التي حدثت في تلك الفترة حتى نستطيع أن نقيم بشكل موضوعي وعميق لما جرى، ونعقد مقارنة موضوعية بينه وبين ماجرى في تركيا. لكن هناك مثل عربي يقول: ” اللبيب بالإشارة يفهم ” ، بمعنى أن الشخص الفطن الذكي النبيه يفهم ويتنبه للخطر بإشارة واحدة فقط ، وهذه القاعدة انطبقت على الحالة التركية التي دللت بشكل واضح على فطنة وذكاء ونباهة القيادة التركية وحزب العدالة والتنمية عندما تلقوا إشارة المحاولة الانقلابية تحركوا بسرعة كبيرة، واستطاع أردوغان بنباهته وفطنته أن يهرب من حصار الانقلابيين ويتصل بالشعب ويدعوه الى النزول للشوارع مما ساهم في إحباط العملية الانقلابية .
لو رجعنا إلى المشهد المصري نجد أن القيادة المصرية بقيادة الدكتور مرسي فك الله أسره وجماعة الإخوان المسلمين قد تلقوا إشارات واضحة بل معلومات دقيقة قبل ثلاثة أشهر بأن هناك محاولة انقلابية تحاك ضدهم، ولكنهم لم يعيروا اليها أي اهتمام، وظنوا أن الشعب معهم وقادر أن يحمي شرعيتهم في ظل وضع دولي متأزم وتآمرات إقليمية ودولية كبرى ضد المشروع التغييري في مصر وفي العالم العربي برمته. لم يتفطن الإخوان والقيادة المصرية في تلك الفترة الى المؤامرات التي تحاك ضدهم رغم هذه الإشارات التي تأتيهم من عدة جهات سواء كانت داخلية أو خارجية.
إن ما يميز الحالة التركية عن الحالة المصرية أن العقل السياسي التركي وصل إلى حالة من النضج ومن التشبع بالفكر الديمقراطي مايجعله يرفض فكرة الانقلاب التي عانت منها تركيا عقودا طويلة، وخلفت تشوهات كبرى في الفكر السياسي التركي الذي مازال الى يومنا هذا يعاني منها ، ولست هنا أعتبر أن التجربة التركية قد وصلت إلى أعلى مستوياتها من النضج الفكري والسياسي فهي مازالت تحتاج الى التطوير في خرائطها الفكرية والسياسية.
في مقابل ذلك نجد أن العقل السياسي العربي بشكل عام والمصري بشكل خاص عاش حالة من التسجييع والتحنيط ساهم في تكليسه بسبب جملة القناعات والمفاهيم التي كان يتبناها والتي كانت تحتاج الى عدة مراجعات أساسية، وقد زاد على ذلك قمع الدولة التسلطية التي لم تكن نابعة من خيارات العقل السياسي والشعوب العربية بل وصلت عن طريق الانقلابات وتدخل الجيش في الشأن السياسي وهو ماشهدناه في مصر منذ انقلاب 1952 والمأزق السياسي الذي دخلته مصر عندما تم اغتيال العقل السياسي المدني وتقلص دوره وفاعليته أما هيمنة العقلية العسكرية.
ورغم أن الإخوان المسلمين حركة قديمة تأسست في أواخر الربع الأول من القرن الماضي، و رغم أنها حركة كانت لديها تجربة مع خداع العسكر عندما ساندت انقلاب عبد الناصر الذي قام بانقلاب 1954، ثم بعد ذلك انتقم منهم، وأعدم قياداتهم وسجن الالف منهم، إلا أنهم لم يستفيدوا كثيرا من هذه التجربة القاسية ولم يدركوا الدرس جيدا عندما وثقوا في بعض قيادات الجيش، وانطلت عليهم الحيلة، وتركوا الفرصة سانحة لخصومهم للانقلاب عليهم وتصفيتهم وقتل أكثر من خمسة آلاف شخص وإنهاء تجربة سياسية كان بإمكانها أن تخرج مصر من حالة التأزم إلى النهوض الاقتصادي وإلى أن تلعب دورا بارزا في المنطقة وتؤثر في طبيعة التوازنات الموجودة في المنطقة.
في حين نجد الأتراك الذين كان لديهم رصيد من التجربة والخبرة بالانقلابات السابقة جعلهم يدركون أن عامل الزمن مهم جدا، ويجب إفشال الانقلاب عبر الحفاظ على حياة الرئيس أردوغان الذي خاطب شعبه وطمأنه بأنه على قيد الحياة، ودعاه للنزول الى الشوارع بل قام أردوغان بمغامرة كاد يموت فيها عندما اتجه نحو مطار استانبول وخطب في الجماهير بكل ثقة في النفس وبكل اصرار، بينما نجح الانقلابيون في مصر في عزل الرئيس مرسي وابعاده الى مكان معزول، ولم يتفطن الإخوان المسلمون ومناصروهم الى أن حياة الرئيس ووجوده بين الجماهير كان سيغير من مصير الانقلاب ، بمعنى لو تم تهريب الرئيس مرسي أو افتكاكه بالقوة حتى لو مات فيها عدد من الشبابن وإرساله رسائل الى الشعب المصري بضرورة النزول الى الشوارع وحماية المسار الديمقراطي لما استطاع الانقلابيون أن يسيطروا على الدولة بأكملها أو ينجح الانقلاب غير ان الرئيس مرسي ظل وحده معزولا واستفرد به الانقلابيون ونجح الانقلاب منذ اللحظات الاولى .
لست هنا في حالة جلد للإخوان المسلمين، وأدرك تماما أن الوضع لم يكن سهلا كما يتخيله البعض و أنهم لم تكن لهم القدرة الكافية على إيقاف سلسلة المؤامرات التي تحاك ضد مصر ، ولكن كان بإمكان الاخوان المسلمين أن يكونوا فطنين ويحبطوا عملية الانقلاب التي علموا بها قبل ثلاثة أشهر. لقد كانت مساحة الزمن في صالح الاخوان وكان بإمكانهم أن يناوروا أكثر و يفشلوه ويحبطوه بعدة وسائل غير أنهم ظلوا في نوم عميق، وكانوا يعيشون في حالة وهم ويعتقدون أن كل أجهزة الدولة معهم في الوقت الذي كانت كل هذه الأجهزة تعمل ضدهم، وتذكرون جيدا كلمة مرسي في الجيش المصري حينما قال ” قواتنا المسلحة زي الذهب”.
المقارنة الثانية بين المشهد التركي والمشهد المصري أن الأتراك كانوا باستمرار يقومون بعملية تنظيف للعناصر المشبوهة والمشكوك فيها، وكانوا يتوقعون في كل لحظة أن تقع أي عملية أو انقلاب ولذلك كانت لديهم سيناريوهات جاهزة واستعدادات لمثل هذه اللحظات الصعبة. وفعلا كانت ليلة الانقلاب ليلة تظافرت فيها الجهود بين أجهزة الأمن مع المواطنين الذين قطعوا الطريق بالشاحنات على الدبابات في الطرق وتشتيت جهود الانقلابيين. كما أن الدولة التركية استطاعت أن تجبر الانقلابيين على تغيير توقيت الانقلاب الذي كان محددا في الساعة الثالثة صباحا وتقديمه إلى الساعة الثامنة وهذا التغيير أحدث إرباكا كبيرا في سير العملية بل كان من الأسباب الفعالة في إفشال الانقلاب.
بينما القيادة المصرية قامت بخطإ فادح يعكس حالة انعدام الفطنة السياسية والقدرة على محاربة الذئاب، فقد تم تعيين الانقلابي السيسي الذي كان يعمل رئيسا للمخابرات الحربية وزيرا للدفاع الذي استطاع فعلا أن يخدع ويستغفل الإخوان المسلمين الذين وثقوا فيه بشكل كبير فكان الانقلاب بأيديهم، أي أنهم هم الذي ساهموا في توجيه الطعنة الى أنفسهم جراء عدم فطنتهم وعدم تنبهم لمايجري حولهم من مؤامرات.
إن من ميزات السياسي ورجل الدولة أن يكون مدركا لما يجري حوله، وأن يكون ملما بوسائل محاربة الذئاب المتربصة به، ولا يكن مثاليا ومغفلا يثق في من كان عدوه، وأن المراهنة على الشعب غير مضمونة لأن الشعوب ذكية وتعرف بشكل جيد موازين القوى، وتعرف حجم المخاطر التي تحدق بها . فالشعب التركي وأقصد قسم كبير من الشعب التركي وثق في زعيمه أردوغان واستجاب لدعوته، ونزل الى الشوارع واستمات ضد الانقلابيين بصدور عارية وحمى وطنه ودولته ورئيسه الذي نجح على مدار 14 سنة في تحويل تركيا الى دولة كبرى، وأنجز مشاريع كبرى وقدم خدمات هائلة الى الشعب التركي الذي كان وفيا له عندما دعاه الرئيس للنزول الى الشوارع.
غير أن التجربة في مصر وإن كانت تجربة قصيرة في عمرها الا أن الإخوان المسلمين وأنصار الثورة في مصر كان بإمكانهم أن يحبطوا عملية الانقلاب، ويفوتوا الفرصة على الانقلابيين لو خطوا منذ البداية خطوات محسوبة وذكية تحسبا لأي تهديد للتجربة الديمقراطية المصرية. ورغم أنهم بدؤوا في تحقيق جملة من الانجازات الا أنهم ظلوا يديرون الدولة بعقلية الجماعة وليس بعقلية الدولة، كما أنهم أداروا الدولة بعناصر تابعة للنظام القديم مثل جهاز المخابرات والقيادات العسكرية كالسيسي الذي استغفلهم وانقلب عليهم.
مع الأسف مازال من الاخوان المسلمين من يصر على عدم الاعتراف بالخطأ ولكن أقول الى هؤلاء إن السياسية في مفهومها الواقعي والعملي هي القدرة على مراقصة الذئاب وعدم إعطاء الفرصة لها في افتكاك ماتملكه، وإن الشعوب لا يمكنها أن تناصرك الا إذا عرفت أنك قادر على محاربة الذئاب، وقتها يمكن أن تنزل إلى الشوارع، وتناصرك وتموت من أجل الوطن مثلما رأينا في مشهد قسم كبير من الشعب التركي الذي استجاب الى رئيسه بكلمة واحدة عبر جهاز الآيفون وأحبطوا الانقلاب.
غير أن الشعوب لا يمكنها أن تدخل في مغامرة قاتلة وتحمي زعماءها إذا كان هؤلاء لا يتحلون بالفطنة و لا بالقدرة على محاربة الذئاب أو ترويضها على الأقل لأن الشعوب ببساطة لا تحمي المغفلين…