لم يكن مفاجئا لي ما قاله الدكتور محمد البرادعي في حواره التلفزيوني الأخير، من أن النخبة المصرية تمزقت أو مزقت ثورة يناير بعد انتصارها في 11 فبراير بتنحية مبارك عن الحكم، حيث لم تتفق على أي شيء بعدها، كانت كراهية مبارك ورفض مبارك هي الشيء الوحيد الذي اجتمعوا عليه، فلما سقط مبارك تبعثروا، كل فريق منهم ذهب إلى واد وإلى مطالب وإلى رؤى لشكل الدولة وصيغة الحكم الجديد، وإلى حسابات خاصة بكل قوة سياسية وربما بكل شخصية، لكنها كانت صريحة ومؤلمة وساخرة تعبيرات البرادعي، وكان رمز الثورة يومها، أن كل شخص في النخبة المعارضة وقتها كان معنيا بنفسه وصورته والتقاط الصور أمام الكاميرات وحضور البرامج والادعاء بتأثيره وحضوره في الشارع، ولم يكونوا معنيين بقضية الوطن العامة، أو التجرد للبحث عن مصلحة الوطن نفسه.
ثورة يناير نجحت لأنها قامت على أكتاف الشباب بالدرجة الأولى، ولم يكن من بينهم رموز كبيرة وإن كان كثير منهم عرف حينها، وكان الشباب أكثر نبلا وتجردا للوطن والثورة، وأكثر إخلاصا للمستقبل من النخبة، غير أن الشباب كانت مشكلتهم هي الوعي بحسابات اللحظة وموازينها، فقد أخطأوا عندما تجاهلوا أن هناك شركاء آخرين في الثورة وأنهم أكثر خبرة وتنظيما وأسبق في تحديد رؤيتهم من الأحداث، وتحديدا، أخطأوا في تقدير وزن المجلس العسكري ودوره في إنهاء حقبة مبارك، وفي ترتيبات المرحلة التي تليه، وكانوا يفهمون عبارات قيادات المجلس من نوع : الجيش يحمي الثورة، بصورة عاطفية وطوباوية، باعتبارهم الزعماء، والمجلس العسكري مجرد أداة لتنفيذ إرادة الزعماء الجدد، ولم تصل إليهم الإشارة على وجهها الصحيح، وهو أن المجلس العسكري شريك حقيقي في الثورة ونتائجها، حتى لو كانت الحسابات مختلفة في النهاية، وبينما كان الشريك المدني يزداد تشرذما وانقساما وطوباوية وتمردا على كل فكرة ورفضا لكل مقترح واقعي، كان الشريك العسكري يزداد ثقة وواقعية ووضوح رؤية لما يريد ترتيبه في دولة بحجم مصر، تعيش في تلك اللحظة فراغا سياسيا خطيرا، وحتى عندما وصلنا إلى محطة الانتخابات الرئاسية التي أوضح البرادعي أن المشير طنطاوي شهد له بنزاهتها، وأنهم لم يعرفوا من الفائز حتى اللحظة الأخيرة وأن مرسي فاز بالنتيجة فعلا، حتى تلك اللحظة التي كانت فارقة في تاريخ مصر، وكان من الممكن أن تغير وجه المنطقة بكاملها وليس مصر فقط، تمت إضاعتها، ليس لأسباب طارئة، وإنما لنفس الأسباب القديمة التي حكى عنها البرادعي بعد إزاحة مبارك مباشرة، تمزق النخب السياسية واشتغال كل طرف لحسابه وتربص كل طرف للطرف الآخر واعتبار كل طرف أن الثورة هي فرصته لتحقيق أحلامه التاريخية، دون نظر لتوازنات المجتمع وحداثة التجربة وهشاشة الوضع المؤسسي بكامله، فضلا عن تبلور الانقسام الأكبر بين التيار المدني والتيار الديني وتحوله إلى مواجهات لها طابع دموي ومترع بالكراهية، وهو الأمر الذي تفاقم بعد وصول مرسي للرئاسة، خاصة أن الممارسات التي جرت حينها لم تكن حريصة على وقف التشرذم وتحقيق الإجماع الوطني والتوسع الضروري في شراكة سياسية شاملة، ولم يكن المجلس العسكري وقتها بحاجة إلى بذل مزيد من الجهد لينهي المسألة، كان يكفي أن يتركهم يأكل بعضهم بعضا، وينهون بأيديهم مشروع ثورة يناير، ويعود الجميع إلى “الجحور” القديمة التي كانوا فيها وتتقلص ميادين الثورة لتعود إلى سلالم نقابة الصحفيين من جديد.
والمشكلة الآن أن الأوضاع نفسها التي مزقت ثورة يناير وأفشلتها ما زالت هي القائمة حتى تلك اللحظة، رغم كل ما جرى وكل الآلام والخسائر للجميع، وهي حالة من الجنون السياسي يصعب تحليلها بأي منطق، وما زالت القوى السياسية المتشرذمة يتعالى بعضها على بعض، ويطعن بعضها بعضا ويشمت بعضها في مصائب البعض الآخر، وما زالت ـ مع الأسف ـ كل قوة تبحث عن حساباتها ومصالحها وعلاقاتها هي مع النظام الجديد، وما زال البعض يتصور أنه ـ وحده ـ الأمل الذي تنتظره مصر لإنقاذ ثورتها وتصحيح مسارها، ويعيش وهما وخيالا لا صلة له بالواقع أبدا.
إذا لم تكن الخطوة الأولى في مشروع الإنقاذ أن تؤمن بأن الوطن يسعك ويسع مخالفيك، فلن تفلح في تغيير شيء على أرض الواقع، وأنت خير داعم للخلل القائم والظلم القائم، بغباء أو قصد، وإذا استهلكت أغلب طاقتك في حساب مرارات تاريخية وتوزيع الاتهامات عن معارك الماضي السياسية، وتصنيف البشر، فلديك متسع للتنفيس عن غضبك في صفحات الفيس بوك، وسيبقى الواقع يمضي بعيدا عما تفكر فيه أو تنشغل به.