انتهى “المثاليون” إلى أن يكونوا: خوارج أو سلبيين (كالسلفية العلمية أو المتصوفة التي تعتزل الحياة)..
ولذلك لم تقم للخوارج دولة إلا وقد تخلوا عن أهم مبادئهم “الإمامة شورى بين المسلمين جميعًا”، فإنما كانت دولهم دولًا وراثية أيضا!
بينما التاريخ على الحقيقة -خصوصًا تواريخ السياسة وشؤون الدول والممالك- هو تاريخ الاضطرارات والقرارات الصعبة.
(2)
ولقد كان سيدنا أبو ذر الغفاري داعية جليلًا وموهوبًا، وعلى يده وحده أسلمت نصف قبيلة غفار، لكن النبي منعه أن يكون واليا، ونصحه ألا يتولى أمر اثنين.. ثم بدت حكمة النبي كأوضح ما يكون حين اضطر معاوية إلى الشكوى للخليفة الراشد عثمان بن عفان من أبي ذر، فاستدعاه عثمان ولما استمع منه، قرر له ألا يعود إلى الشام!
فرحم الله أبا ذر.. ورحم الله الخليفة الراشد عثمان بن عفان، والسياسي النابه: معاوية بن أبي سفيان.
(3)
وقد كان معاوية رضي الله عنه اختيارا ضمن اختيارات الخليفة الراشد الجليل: عمر بن الخطاب، فقد عزل قبله شرحبيل بن حسنة الذي أتى إلى عمر يسأل: أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟
قال: لا إنك لكما أحب ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل.
قال: نعم، فاعزرني في الناس لا تدركني هجنة. (أي: أعلن هذا في الناس فلا يظنون بي السوء)
فقام في الناس، فقال: أيّها الناس، إني والله ما عزلت شرحبيل عن سخطة، ولكني أردت رجلا أقوى من رجل”.
فرحم الله شرحبيل.. ورحم الله عمر.. ورحم الله معاوية.
(4)
وقد عرضت معضلة “التقوى” في مقابل “القوة” في مجلس الخليفة الراشد عمر بن الحطاب، لما أتعبه أهل الكوفة الذين كلما أرسل لهم واليا كرهوه، فقال لأهل مشورته: ما تقولون في تولية ضعيف مسلم أو قوي فاجر؟
فقال له المغيرة بن شعبة: المسلم الضعيف إسلامه له وضعفه عليك وعلى رعيتك وأما القوي الفاجر ففجوره عليه وقوته لك ولرعيتك.
فرحم الله السياسي الداهية المغيرة بن شعبة.. ورحم الله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب!
(5)
ورحم الله جيل الصحابة والتابعين الذين أقروا لمعاوية تولية يزيد خلفا له، لأن أوضاع ذلك الزمن وظروفه كانت تحتم تولية المفضول صاحب القوة في وجود الفاضل، حفظا لوجود الأمة وحقنا لدمائها، وهو ما كان! وقد أثبت بنو أمية أنهم كانوا رجال المرحلة حقا، فقد جددوا عهد الفتوحات الكبرى وحفظوا وحدة الأمة ونشروا الدين! وكانت دولة الإسلام أقوى ما تكون في عصرهم! ولم يتحقق من بعدهم وحدة الأمة ولا يوما واحدا!
(6)
وإن مهمة الفقه، من حيث كونه فقها عمليا، أن يكون حاضرا في المعضلات.. قادرا على إجابة أسئلة الاضطرار، والموازنة بين الخيارات الصعبة.
ولا يكون فقها طالما أمسك في “المثاليات” وقعد إلى جوارها.. بل هذه هي الفلسفة! الفلسفة التي تحب التحليق في الأبراج العاجية.
وتاريخ فشل الخوارج في بناء دولة “المثاليات” حاضر شاهد..
ومثله تاريخ من اعتزلوا الصراع في كهوفهم العلمية وخلواتهم الصوفية..
كلاهما إن لم يُستعمَل في خدمة المستبدين والمحتلين، لم ينجح في تجسيد فكرته واقعا عمليا!
ولذا، فإن الطاعنين على الفقه السني، والذين يرمونه بفقر السياسة أو فقر مواجهة الاستبداد هم في الحقيقة “مثاليون” أفضل ما يستطيعون أن يكونوا “فلاسفة”.. فلاسفة في أفكارهم فقط، أما حياتهم فتمتلئ بالموازنات والاضطراريات.
[ولقد كنت قبل أيام في لقاء مع اثنين ممن أكثروا الطعن في بني أمية “إعلاء للمبادئ على الأشخاص”.. بينما سيرة حياتهم تمتلئ بالموازنات، حتى إن أحدهم امتنع عن إجابة سؤال حرج في ذات المحاضرة، والآخر يملأ الفضائيات تنظيرا عن ضرورة مراعاة التوازنات في الثورة المصرية]
فأما الفقهاء حقا، فهم من أجازوا السمع والطاعة للمتغلب الذي يقيم شرع الله، وطاعته في المعروف، مع إثباتهم نقصان شرعيته وبطلان طريقة ولايته إلا أن يستقر له الحال ويتمكن.. وهم من جاهدوا الرافضة تحت راية الخوارج، وجاهدوا الكفار تحت راية المبتدعة أو الجائرين.. وهم من أجازوا الصلاة خلف الأمير الفاسق أو الفاجر!
على خلافات تطول بينهم في كل هذه الأمور، منبعها الخلاف في الموازنة والترجيح بين الخيارات الواقعية العملية الحقيقية.. وبهذا وحده بُنيت دولة الإسلام في التاريخ وكانت حقيقة في الواقع.
وبهذا وحده أيضا ظلوا هم فاعلين في التاريخ، يملكون أن يجاهدوا وأن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر وأن يتحدثوا في شرعية الدولة والحاكم أو في نقصانها أو في بطلانها.
ولو أنهم ظلوا في أبراج مثالياتهم لم يكن صاحب القوة ليجد رادعا عن شيء يرتكبه ويستبيحه، ولم يكن لهم في واقع الناس أمر ولا نهي ولا محل نصح ولا تبيين.. ولما عقم الأزهر أن يستجيب لواقعه وأن يخرج من الشريعة قانونا، أتى الحاكم بقانون الكافرين فأقره كما هو ولم يملكوا له شيئا.. ثم هجر الناس علمهم القائم على المتون والحواشي واللفظيات إلى طلب العلم في الجامعة ولو كان على أيدي كفار أو متغربين.
ثم لم يلبث أن صاروا محكومين لقانون الكفر وخاضعين له في أدق شؤونهم، ثم غزتهم الجامعة في عقر مجالسهم.. ثم صاروا لعبة في أيدي المحتلين وعملاء المحتلين.
(7)
ومن قبل ذلك كله، وفوق ذلك كله، وأثبت من ذلك كله.. سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم.. فقد امتنع عن قتل منافق لأن له عصبة وقال “لو أني قتلته يومئذ لاحمرّت له أنوف”.. وعرض ثلث ثمار المدينة ليفكك تحزب المشركين.. وقبل بمعاهدة ظاهرها “الدنية”.. ومنع أبا ذر من أن يتولى شيئا رغم تقواه.. ولم يبن الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لحداثة عهد المشركين بالإسلام.. وأمر برفع الحصار عن الطائف قبل استسلامها!
وكلها أمور لو عُرِضت على بعض “المثاليين” الآن لاعتبرها تنازلا لا يجوز بحال، بل ربما جعلها من الكفر الذي يوالي عليه ويعادي ويستبيح به الدم والمال!
* هذا مقال لجماعة “المثاليين” ولربما تبعه مقال آخر لجماعة “المنبطحين المتنازلين”