لم أكن أرجم بالغيب حين قلت قبل يومين في هذا المكان، إن ما تسمى حركة “البداية” التي نتأت فجأة في مصر، ربما تكون هي “تمرد” في طور جديد، وإطلالة مختلفة.
الآن، يتضح أكثر وأكثر أن النظام العسكري الذي اخترع “تمرد” جسراً لانتزاع السلطة من المدنيين، يقف، أيضاً، وراء اختراع “البداية” دعامات لتثبيت حكمه، من خلال العبث في جينات المعارضة، لإنتاج سلالة لا تطرح أبدا فكرة تغيير النظام جذرياً، بل تسعى إلى تغيير الملامح الخارجية للنظام، بحيث يبدو أكثر تحضرا ومدنية، وأوسع صدرا، مع المعارضة، التي يصنعها على عينيه.
والآن، وعلى ضوء عديد من المعطيات، أكرر “إذا وضعت في الاعتبار أن من مؤسسي “البداية” من كانوا يلعبون الأدوار ذاتها في تأسيس “تمرد”، ومنهم من كان يجوب قرى الصعيد والدلتا، لحشد الناس لتوقيع “استمارات تمرد” المدعومة عسكريا، فإنك تكون بصدد فخ جديد، يستهدف قطع الطريق على إنشاء كيانات أخرى محترمة، تسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية”.
لا ينفصل الإعلان عن الحملة، أو الحركة الجديدة، عن توسيع قاعدة استهداف كل المعارضات القديمة، باستخدام كل الأسلحة، بما في ذلك سلاح المعارضة المنسجمة إلى أبعد مدى، مع نظام الحكم الحالي، حيث لم تكن هناك مناسبة، مثلاً، لكي يخرج الدكتور محمد أبو الغار بحوار يتحدث فيه عن “حركة 6 أبريل”، باعتبارها غير قانونية، ومحظورة، لا يجوز الحوار والتعامل معها.
يحدث ذلك بالتزامن مع الدفع بالحركة الجديدة “البداية”، وعلى رأسها، أسماء تنتمي للحزب الذي أسسه وترأسه أبو الغار، ليكون الهدف في المحصلة نسف المعارضة القديمة، وتثبيت كيانات أخرى مكانها.
يلفت النظر، أيضا، تلك الحفاوة، أو على الأقل، الاستقبال غير المعادي للحركة الوليدة، من جانب وسائل إعلام الانقلاب، فلم تتطاير مفردات التخوين، ولم تسدد ضربات الاتهام بالعمالة، ولم تتردد حواديت الطابور الخامس الذي يريد هدم البلد.. إلخ.
وتأتي شهادة أحد المشاركين في تأسيس “البداية”، والتي يعلن فيها انسحابه، بعد أن اكتشف أنها ولدت على فراش الدولة العميقة، وأن وراءها أجهزة سيادية، لتؤكد أن “مدير السيرك” المصري يستجمع كل مهاراته وحيله للعب بالجميع، وعلى الجميع الآن، لإلهاء الجماهير بأكروبات سياسية مستحدثة، تختطف الوعي العام، بعيداً عن المعارضة الجادة والحقيقية، الجذرية، لنظام فاقد للشرعية الأخلاقية، وفاشل في انتزاع “شرعية الأداء والنجاعة”.
وفي خلفية ذلك كله، تتصاعد نبرة الانتقادات للجنرال الحاكم، على نحو مبالغ فيه، من أذرعه الإعلامية الأكثر قرباً إليه، وتعبيرا عنه، واستماتة في الدفاع عنه، بما يوحي بأن مصر مقبلة على عصر ديمقراطي، يصبح فيه ممكنا أن يوصف الزعيم المغوار القوي الهمام بأنه رعديد ومتعثر، ثم تأتي مرحلة لاحقة بإغراق الفضاء والأرض بأشكال من النميمة المسربة عمدا، عن أن انقلابا أبيض ناعما في الطريق، وأن النظامين، الإقليمي، والعسكري في مصر قررا التخلص من “الزعيم الضرورة” لأن رحيله صار ضرورة!
ولزوم الحبكة الدرامية، لا بأس من إشعال معارك سينمائية على مواقع التواصل الاجتماعي، بين أبناء نظام الثلاثين من يونيو/ حزيران، والإلحاح على أخبار الانسحابات، والاعتزالات المفاجئة لمن هم أكثر حماسة واستبسالاً في الدفاع عن الحكم.
وفي المجمل، يمكن القول إن النظام بصدد عملية إحلال وتجديد، أو فك وتركيب، أو إعادة تدوير، لمعارضته التي يريدها وفقا لمقاساته وألوانه المفضلة، ولن يخلو الأمر من التخلص من بعض “الكراكيب” القديمة، والدفع بوجوه جديدة في المضمار ذاته. ولا بأس هنا من أن تتوافق ذكرى إنشاء “تمرد” مع طرح منتج جديد يتم تصنيعه من “بواقي تمرد” وبقايا معارضة، جاهزة دوما لتمثيل كل الأدوار، بمنتهى الشطارة والمهارة.
إن “تمرد” مثل “الحاج تمرد”، فلا تشغلوا أنفسكم أكثر مما يجب، بهذه الألعاب النارية المبهرة.