كلنا صدّقنا تلك الأشياء الوردية المتناثرة حول حيواتنا وأحلامنا وواقعنا؛ لكن الحياة لم تكن كذلك منذ البداية، الحياة كانت واضحة ونحن من صدّقنا أوهامًا.. اختلقناها لكي نستطيع الاستمرار؛ فكل كتب التاريخ والأدب لا تنفك تخبرنا عن ظلمة الحياة وبؤسها، وليس أبلغ من قوله {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (لقمان:33)
ما الذي لم نصدقه من وعد الله يا عبدالله؟ لماذا توهمنا أن حناجرنا عندما هتفت الشعب يريد إسقاط النظام كانت أقوى من دبابات وبنادق النظام وشبكات المصالح السياسية والاقتصادية؛ بل والعلاقات والمصالح الدولية، هل كنا منطقيين آنذاك أم كنا كهؤلاء الذين يظهرون في أفلام هوليود من الزومبي والمشدوهين الذين يمشون في جماعات إلى حتفهم الأخير؟
ما الذي فاتنا يا عبدالله عندما صدقنا أن جماعة فشلت في كل اختبارات الثورة والراديكالية لن تنحاز للمؤسسة العسكرية لتحصل على السلطة كمثلها من بقية المنافسين الذين هبطوا على رؤوسنا فجأة في الميدان كلٌ منهم يبحث عن قتيل يساوم على جثته ليحصل على نصيبه في مصر الجديدة.
ما الذي توهمناه يا عبدالله ونصف الشعب يختار حرفيًا الفريق شفيق ومع ذلك يصر الإخوان إلا أن يخسروا ذلك النصف الآخر الذي ساندهم مرة بتخليهم عن الثورة ومرة بتقديمهم للمذبحة الكبرى، بعد التأكيد لهم أن الجيش في جيبنا، وأن الملائكة تحارب في صفوفهم، وأن الانقلاب يترنح.
كيف خُدعنا عندما هتفنا جميعًا للبرادعي وسميناه الأب الروحي للثورة وأهم المطالبين بمدنية الدولة وأشد المدافعين عن حقوق الإنسان وحريته، وكان الرجل قد وقف بكل بساطة إلى جوار مجموعة من اللصوص والقتله راضيًا بمنصبه الوهمي كرابطة عنق للانقلاب العسكري؛ قاضيًا بذلك على هوسه بمدنية الدولة وهوسنا بمصداقيته، ولا أخفيك سرًا يا عبدالله، فالرجل بعد أن صمت على مجزرتين متتاليتين وجلس في اجتماع مجلس الأمن القومي الذي قرر فض اعتصام رابعة لم يجد وصلة للإنترنت ولا آيباد لكي يخبرنا أنه كغيره شريك في القتل وأن استقالته كانت فقط محاولة بائسة لنفض الدماء المغموسة فيها يديه عنهما؛ حيث ظل نائمًا منذ الصباح بينما الناس يُقتلون واستيقظ في الرابعة مساءً ليلقي في وجهنا جريمته ويرحل، ولا أخفيك سرًا أيضًا أنه منذ أن ذهب إلى فيينا لم تواتِه الفرصة أن يجلس إلى الآيباد فيكتب لنا اعتذرًا عن شراكته في القتل علّنا نصنع وهمًا جديدًا فنقبله.
ما الذي توهمناه يا عبدالله من حفنة الأحزاب المتمرغة في تراب العسكر ونظام مبارك وفقط دهن كلٌ منهم حائط حزبه ببعض هتافات الثورة مع إمكانية مسحها وقت اللزوم، وتمرن كلٌ منهم أمام المرآة على بعض الجمل الرنانة كالحرية والديمقراطية والتي ظل يتلعثم بها حتى جاء الديكتاتور المخلص ليخلصهم منها ويطمئنهم أن عليهم العودة لمقاعدهم في مداهنة السلطة وغض الطرف عن جرائمها؛ بل وربما مدح فشلها وبؤس ما وصلنا إليه.
هل تعرف يا عبدالله لماذا لم يصرخ أحدهم في وجه مرسي عندما كان يشكر العبور الثاني للشرطة التي كانت وقتها تجهز للعبور الثالث على رقابنا ورقاب مرسي وأهله وعشيرته؟
هل أخبرك أي من الجالسين في القاعة التي قال فيها مرسي وهو يشير لبطل المذبحة ويقول له: “إحنا عندنا رجالة زي الدهب” لماذا لم يهتف أحدهم يسقط يسقط حكم العسكر بدلًا من التصفيق الحاد وهتاف “الجيش والشعب إيد واحدة”؛ حيث أن هذه الإيد الواحدة تبين بعد ذلك أنها تقتل نصفها ليحكم نصفها الآخر!! أتعرف دائماً كلما أعود لهذا الفيديو أبحث في وجوه الجالسين وأدعو الله أن يكون هناك واحد على الأكثر يتمتم في سره ويقول “يسقط يسقط حكم العسكر، إحنا الشعب الخط الأحمر”.
لماذا توهمنا يا صديقي أن القضاء الفاسد منذ أن فتحنا أعيننا على هذه الدنيا فجأة أصبح عادلًا أو نزيهاً.
لماذا لم نتأكد أن هؤلاء المتشدقين بالحقوق والحريات سيدافعون عن الحقوق بلا تمييز سياسي أو ديني أو عقدي قبل أن نحملهم على أعناقنا ليدقوا هم أعناقنا عبر مايكروفون ذلك الضابط الذي ظل يردد “عملية فض الاعتصام تتم بإشراف من المنظمات الحقوقية والمدنية وجماعات حقوق الإنسان”، ولا حتى الحيوانات يجب أن تُعامل هكذا يا عبدالله؛ أن تقتل وتحرق وتلقى جثامينها في الشوارع تتعفن لكي يخرج علينا أحدهم يحدثنا عن أنه كانت هناك بعض التجاوزات؛ لكن ذلك كان يجب أن يحدث من أجل هيبة الدولة.
هل أخبرك شيئاً يا عبدالله، ظز في هيبة الدولة التي لا هيبة للحياة فيها.
لماذا كنا حمقى انتظرنا من إعلام ألقى البيض في وجوهنا أن ينطق بكلمة حق ونحن نعلم أن خيوط الماريونت التي تحركه قد تسمح له بإلقاء البيض؛ ولكن لن تسمح لحمالاته أن تضغط على صدره فيفيق ضميره ليخبرنا أنهم كلهم كااااذبون كاذبوووون.
لماذا كنا سذجاً يا عبدالله ونحن نستمع لمجموعة من التائهين في عالم موازٍ ولم يحصل لهم أن مروا بعالمنا أن يقولوا لنا أن الانقلاب يترنح، وأن الحق سينتصر وأن السبت القادم ستكون هناك مفاجأة، ربما لم يأتِ السبت حتى الآن يا عبدالله.
لماذا تصورنا مثلًا أن محمد منير يغني للحرية والثورة بينما هو يجهز ليخبرنا أنه متحيز ولم يخبرنا قط أنه مع الثورة أكثر من كونه مع الربح والشهرة.
مات الأبنودي يا عبدالله؛ ولكن بعد أن فشل حتى في الصمت ليبقي لنا على بضع كلمات نرددها في عتمة الوقت وثقل الخيبات، مات بعد أن تراجع عن قوله والفجر يطلع تحجبه العسكر في قصيدة أهداها لعلاء في سجنه المتكرر وبينما أنت وعلاء وآلاف منكم بانتظار الفجر كان هو يصافح من حجب عنكم الفجر، حيث بدا له هذه المرة أن قتلكم سيعيد دولته ودولتهم تاني.
هل أخبرتك يا عبدالله أننا من صنعنا هذه الأوهام وأردنا أن نكون ملائكيين جدًا سذجًا جدًا.
لماذا صدقنا تلك الأوهام بأن الحق ينتصر مهما كان الزمن وطال وقصر وأن البطل سيخرج في نهاية الفيلم يهتف “يحيا العدل”؟ هل يمكنك أنت أن تهتف “يحيا العدل” بعد أن يمر من عمرك سنة أو سنتين في محبسك؟ أي عدل هذا وقد حرمت الحياة والحرية وضوء الشمس لأن قاضياً لا ضمير له تلقى مكالمة هاتفية وهو يأخذ حمامه الشمسي في نادي القضاة تخبره أن يحكم عليكم بضياع العمر، وأن يقتلكم كل يوم مرة ولا يكتفي.
كنا نحن الحلقة الأضعف ولم نمتلك القوة في يوم من الأيام وكانوا هم يمتلكون كل شيء، كنا نحلم ونغني وكانوا يقتلوننا.
قتلنا مرتين يا عبدالله؛ مرة عندما مات أصدقاؤنا أمام أعيننا، ومرة عندما رقصنا كالطائر الذبيح على أنغام المارشات العسكرية؛ غير مدركين أن ذلك اللون الأحمر الذي يتناثر أمامنا ليس إلا دماءنا الحالية والقادمة، وأننا فقط نترنح بانتظار السقوط.
قتلنا مرتين ونُفينا مرتين بينما حُبست أنت وآخرون رفضوا الظلم كلٌ بطريقته آلاف المرات، مرة بالقضبان ومرة بالصمت ومرات بخيانات الآخرين ومرات بالأمل، وأخيرًا باكتشاف أن كلنا يا عزيزي كنا سذجاَ.
أعتذر منك ومنهم يا عبدالله؛ فحتى عندما حاولنا أن نكون عقلاء لم تكن لدينا القوة لفرض هذا العقل.
نقلاً عن: ساسة بوست