قبل أسابيع كنت في ندوة تناقش الوضع الإسلامي العام، ثم أعطيت الكلمة لشيخ وقور مهيب لا أعرفه، لكن تقدير الحضور له وتوقيره أوحى لي بأنه أنفق عمره في الدعوة والعمل للإسلام.
وتكلم الرجل كلاما لا ينقصه الصدق والإخلاص، بل ولا ينقصه علم النصوص، وإنما ينقصه الفقه والعلم بأحوال الناس وطبائع العمران وسياسة الدول والممالك.
قال الرجل جملة اخترقت قلبي كالسهم المسموم، قال: “ليست السلطة من أهداف الدعوة الإسلامية، بل الهدف هو الدعوة، وتوصيل كلمة الله إلى الناس، ونشر دين الله في الأنحاء، أما السلطة فهي مغرم لا مغنم، وهي تكليف لا تشريف… إلخ”.
إنه من المفزع والمثير للحسرة والمرارة أن تبقى هذه “الخرافات، والتخريفات” كامنة في صدور الدعاة والمشايخ والعلماء، ذلك أن القوم إن لم يستطيعوا أن يفقهوا هذا من الكتب وسيرة النبي وتاريخ الدول، فليفقهوه من واقعهم المعاصر الذي يكتوون هم بناره.
ألا يرون أنفسهم كيف يستطيع صاحب السلطة -مهما كان قليلا وبغير ظهير شعبي كبير- أن يستند إلى أقليته العرقية أو الطائفية، ثم هو مع السلطة يستطيع حمل الملايين وقهرهم على الخضوع له ولا يملكون له دفعا، بل هو يقدم على ما هو أكبر من هذا: إنه يحارب دين وعقيدة الملايين، فإما أن ينتصر عليها وإما أن يفرغها من مضمونها ويزورها، وهو بما لديه من السلطة والمال يستطيع أن يأخذ من هذه الملايين شيوخا منهم يشرعنون له حكمه ويسبغون عليه ألفاظ الولاية والإمارة والإمامة، ويجعلون الدين خادما له، ويجعلون من المعارضين له إرهابيين وخوارج يأمر الدين بقتلهم وسحقهم.
ما هكذا كان النبي ولا هكذا كانت سيرته!
ولا هكذا جرى التاريخ ولا هكذا قامت الدول ولا هكذا مضت الأيام!
إن كل فكرة وكل دعوة وكل حركة تبحث عن السلطة، ليس لأنهم طامعون في المال والجاه والنفوذ، بل لأن السلطة هي السبيل لنشر هذه الفكرة ونشر هذه الدعوة.
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوجه بالدعوة -منذ أن أعلنها- إلى ملأ القوم وحكامهم، ولما لم يستجب له ملأ قريش ذهب إلى ملأ الطائف، فلما لم يستجيبوا له عرض نفسه على القبائل: على أشرافها ورؤوسها لا على عامتهم وضعفائهم.
إن النبي حين استعصى عليه الملأ في كل حالة لم يضع وقته في دعوة الناس والعامة والعبيد، لأنهم في النهاية تبّع، ولا يمكن أن يكثروا حوله رغم أنف الملأ حتى يكاثروهم ويغلبوهم (كما هو التصور الساذج السخيف الذي نبت في الحركة الإسلامية المعاصرة منذ السبعينيات، ولم يكن يوما نهج البنا ولا قطب).
ولما دخل النبي المدينة دخلها حاكما ولم يدخلها داعية، وأزال النظام السياسي القديم -وقد كان يحاول القيام من بعد الانهيار في معركة بعاث، وكاد ينتصب ابن أبي ملكا- وصار هو السلطة القائمة والمرجع القائم.
ولما ورث أبو بكر دولة الإسلام وضع كل جهده أن لا تنتقص السلطة الإسلامية شيئا، ولو كان عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله!
وقال عمر إن ما يهدم الدين هو “حكم الأئمة المضلين”.
وقال عثمان: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وهكذا سارت الدول، فكل مذهب وكل فكرة لم تنشأ لها دولة فهي إما ماتت ودفنت، أو عاشت سرا وعلى استحياء وبلا تأثير، أو استعملتها السلطة القائمة في شرعنة نفسها وتثبيت ملكها وإخضاع الناس لها.
بل حتى المذاهب الفقهية الفرعية لم تنتشر إلا بالسلطان، فلم ينتشر مذهب الأحناف إلا بفضل أبي يوسف الذي كان قاضي القضاة في عهد الرشيد، فكان يعين القضاة من أصحاب أبي حنيفة، فأقبل الناس على المذهب وتعلموه، وبهذا انتشر في كل الشرق الإسلامي.
ولم ينتشر مذهب مالك في شمال إفريقيا والأندلس إلا بسلطان الأمويين في الأندلس، وهكذا حتى الآن.
وهذا ليس كلامي، وإنما كلام الإمام ابن حزم الأندلسي حين يفسر انتشار المذاهب.
وإكمالا له أقول: ولم ينتشر المذهب الشافعي في مصر والشام إلا في دولة الزنكيين والأيوبيين -وقد كانوا شافعية أشعرية- ثم لم ينتشر مذهب الحنابلة إلا بعد قيام الدولة السعودية واعتمادها على مذهب الحنابلة، وبها وحدها ازدهر مذهب الحنابلة والطريقة “السلفية/ الوهابية”!
ويقال هذا في كل حركة أو دعوة أو فكرة، فما كان للشيعة الاثنا عشرية أن تقوم قومتها الكبرى إلا بدولة الصفويين، ثم دولة الخميني هذه!
وما كان للشيوعية أن تبلغ آفاق العالم لولا أن دولة الاتحاد السوفييتي كانت وراءها، وكذلك بالنسبة للرأسمالية والليبرالية اللتين تقفان خلفهما مجموعة الدول الغربية والإمبراطورية الأمريكية.
وما كان لحقير مثل عبد الناصر أن ينشر الاشتراكية والشيوعية في أرض تكرهها كمصر إلا بالسلطة والسيف، وقل مثل هذا عن قوميات صدام والأسد والقذافي وغيرهم.
بل إن ازدهار التيار الإسلامي منذ السبعينيات حتى هذه اللحظة إنما كان بالأساس لما أتاحه له مساحات الصراع السلطوي، فلولا أن السادات احتاج أن يبعث الإسلاميين من موات لكي يواجه دولة عبد الناصر لما كان للانبعاث الإسلامي أن يحدث في مصر، ولولا الصراع بين عبد الناصر والسعودية لما ازدهر الإخوان ونشروا أفكارهم في السعودية والخليج، وقل مثل ذلك عن الأردن واليمن أيضا!
ويظهر ذلك أكثر وأكثر إذا قارنت هذا بالدول التي لم يحصل فيها هذا الاحتياج السلطوي للتيار الإسلامي مثل عراق صدام وليبيا القذافي وغيرها، فلم يحدث انبعاث إسلامي جديد أو ازدهار للتيار الإسلامي في هذه البلدان، لأن الأمر ببساطة أن مساحات السلطة لم تتطلب احتياجا للإسلاميين.
وإن ازدهار التيار الجهادي لم يحدث إلا بهذه الثغرات في الصراعات السلطوية الدولية، فإن حرب أفغانستان -بإجماع المؤرخين لها، ولو كانوا من الجهاديين كما سجل ذلك أبو مصعب السوري- كانت هي الانبعاث الجديد للحركات الجهادية، الانبعاث القوي، وهو الانبعاث الذي لم يحدث إلا لأن معركة الرأسمالية والشيوعية أتاحت مساحات لعمل الجهاديين الذين كان مسموحا لهم بالوصول عبر دول مثل السعودية وباكستان، وأحيانا بدعم سخي من هذه الدول أو بمجرد السماح للناس بالتبرع لإخوانهم المجاهدين في أفغانستان.
ولما حسم الصراع السلطوي، اجتمعت كل هذه الدول مرة أخرى على الجهاديين فشردتهم ومزقتهم، في ما يسميه أبو مصعب السوري “أخدود سبتمبر” تشبيها للجهاديين بعد الحملة العالمية على الإرهاب بأصحاب الأخدود.
وهذه الثورات المعاصرة دليل أي دليل..
الشعوب تريد الحرية والدين، والحكام يريدون الطغيان وحرب الدين.. والكفة تميل لصالح السلطة، ولولا مساحات صراع السلطة ما ظلت الثورات الحية حتى الآن حية!
وهذا من فضل الله على الناس، أن يجعل لهم تنفيسات ومساحات للعمل!
لكن الخلاصة.. أن السلطة هي غاية كل دعوة، وهي بداية كل تغيير، وهي أمر لم يكن يمكن الإفلات منه وقت أن كانت قوة السلطة محدودة في الزمن القديم، فكيف بها الآن والسلطة قد امتلكت من السيطرة على الناس ووسائل الإعلام وقوة مسلحة ضخمة؟!
كيف يظن أحد أن الإسلام يمكن أن ينتشر بغير سلطة، وأن الدعاة يمكنهم أن يتجنبوا صراع السلطة أو حتى يفلتوا منه؟!