تستطيع مصر أن تعوّض خسائرها الاقتصادية الناجمة عن استيلاء مجموعة من الأشقياء الفارغين، المغامرين، على الحكم فيها، وتحويلها إلى خرابة، يضعون على أبوابها عبارات “وطن قد الدنيا”.
وتستطيع، أيضًا، أن تتعافى من مرضها السياسي، وتتخلص، بعد حين، من كل هذه الفيروسات القاتلة للديمقراطية والمعطلة للتطور السياسي.
لكن، كيف لها أن تشفى من نزيفها الإنساني والأخلاقي؟ من أين لها بروافع حضارية تنتشلها من تحت أنقاض سقوطها الإنساني، واستقرارها في قاع العطن المجتمعي، حيث يسلّم الأب ولده للشرطة، ويحصل على المكافأة، ويبلّغ الموظف عن زميله وينال الترقية، ويتحول الطالب إلى مرشد في أروقة جامعة، لا يصل إلى رئاستها إلا من تختاره أجهزة الأمن؟ ويرى الأستاذ زميله يموت تعذيبًا فيصمت مذعورًا، أو يدخل في عمق الحائط، لا يجرؤ حتى على السير بجانبه؟
كيف لمجتمع أن يعود إنسانيًا، وقد زرعوا فيه بذور قيم سامة، وأعرافًا وتقاليد جديدة موغلة في الخسة والدناءة، واتخذت المسميات مفاهيم غريبة، جعلت أشياء، مثل العيش المشترك والجيرة والتكافل والتضامن، مفردات بالية وعملات لا تصلح للتداول في مجتمعٍ، يقوم على مبدأ الافتراس وعقيدة النهش والقنص والخطف.
كيف يمكن أن يوصف بأنه مجتمع بشري، هذا المكان الذي يعيش وفق قاعدة “الكل بريء ما عدا الإخوان”، ويكرس مبدأ الترقي الاجتماعي والوظيفي، تبعًا لمستوى كراهية الفرد الإخوان، وحسب ما يقوم به من أدوار لمساعدة السلطة في قمعهم؟
أغمض عينيك وافترض أن سلطة الانقلاب العسكري رحلت غدًا، وتخيل شكل مجتمع أمضى سنوات من عمره يتغذى على أعشاب الكراهية، كيف يمكن أن يعيش أفراده في وضع يليق بالبشر، بعد أن فرضوا عليه الحياة بمنطق الضواري والوحوش الجائعة؟
ماذا يفعل مواطن دخل المعتقل شابًا في مقتبل العمر، بوشاية من جاره أو زميله، وخرج وقد انحنى ظهره من التعذيب؟
وماذا تفعل فتاة انتهكوا عرضها، وأذلوا إنسانيتها في عتمة السجن، بناء على بلاغ من جارة أو زميلة، قررت نسفها بوصمها بتهمة الأخونة؟
كيف يمكن لمجتمعٍ، غاب عنه القانون والعرف الاجتماعي والمبدأ الأخلاقي سنوات، أن يتقدم أو يتطور أو يمارس حياة مثل البشر؟
كيف يمكن أن تطلب من “الفرد” أن يحترم “دولة” تحولت إلى تشكيلات عصابية، ومافياوات إجرامية، وقبائل تنتمي إلى ظلام الجاهلية؟
قد يحدث يومًا، أن تتحقق مصالحات سياسية، وتفاهمات على مستوى السلطة والحكم. لكن، ماذا عن تصالح المجتمع مع نفسه، هل فكر أحد في طريقة لمعالجة الفوالق الرهيبة التي أصابت عمق المجتمع؟ هل فكروا في ترميم ما تصدع، وبناء ما تهدم نفسيًا وسلوكيًا؟ هل لدى أحد تصور عن كيفية تفكيك هذا الجحيم الذي زرعوه في قلب المستقبل؟
المعول عليهم في التصدي لأمور بهذه الخطورة في أي أمة هم نخبتها من العلماء، وعلى وجه الأخص علماء الاجتماع والنفس، ومن نكد الدنيا على مصر أن نخبتها ذهبت في السقوط الحضاري أبعد بكثير مما ذهب البسطاء، فشخص مثل الدكتور أحمد عكاشة، صاحب الاسم الرنان في عالم الطب النفسي، التصق بالجالس على كرسي الحكم، حتى صار جزءًا من هذا الكرسي، وبدلا من التفكير في مآلات الزلزال الاجتماعي والنفسي الذي ضرب المصريين، يلجأ إلى الحل المضمون، منسجمًا تمامًا مع وظيفته مستشارًا للحاكم المستبد، فيلقي باللائمة على الجماهير، ويبرئ السلطة، ومثله عبوات أصغر حجمًا من خبيرات علم النفس التلفزيوني.
وما يفعله عكاشة علم النفس لا يختلف، شكلاً أو مضمونًا، عما يمارسه عكاشة التلفزيون، ويشاطرهما في الحملة الوطنية للتعمية والتعتيم والتجهيل جيش من العلماء والمثقفين، كنا نعدهم صوتًا للشعب، لكنهم اختاروا أن يسعوا إلى أن يكونوا مرايا، يرى فيها الحاكم وجهه، ويحلق ذقنه، ويبصق على شعبه، كل صباح، وزعامات حزبية تهتم بتنشيط السياحة أكثر مما يشغلها أمر عشرات الآلاف في ظلام السجون، وسياسيين يمارسون السمسرة على الثورات، كما يليق بأصحاب مكاتب عقارات وسط البلد.
إن الأمم تنهزم عسكريًا، فتستطيع النهوض، بعد حين، من كبوتها، وتنهار اقتصاديًا، فيمكن انتشالها، بمساعدات الخارج وجهد الداخل، لكن الأمم حين تنهزم أخلاقيًا وإنسانيًا، لا تقوم لها قائمة بسهولة، خصوصًا إذا كان مثقفوها وعلماؤها تحت الردم.