بالرغم من أنه قد شهد شاهد من أهلها، وظهرت براءة يوسف عليه السلام مما نُسب إليه زورا وبهتانا، إلا أن تلك البراءة لم تُجنِّب ذلك النبي الكريم التعرض للسجن {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين}.
ويا للعجب، البقعة الوحيدة التي تحدّث القرآن عن سجونها هي مصر، وليس ذلك فحسب، بل أظهر القرآن كيف يطوِّع ساستها قضاءها لمآربهم السياسية، بعد أن خشي القصر من شذى عفّة يوسف أن تفضح رعونة الكُبراء.
وبعد عشرات القرون خلَت، لا تزال السجون في مصر تردد جدرانها صرخات المُعذّبين، ويتسلّل من خلف قضبانها أنين المظلومين.
ولا يزال قضاء مصر الشامخ يمارس دوره البغيض كأداة في يد نظام دولة الباطل، تخدم سياساته الرعناء، وأهدافه الشيطانية.
(القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة.. قاض قضى بالهوى فهو في النار، وقاضٍ قضى بغير علم فهو في النار، وقاضٍ قضى بالحق فهو في الجنة).
بِذا حذّر النبي صلى الله عليه وسلم قضاة أمته، نظرا لما يترتب على فسادهم وفساد الأحكام التي يُصدرونها من ظلم للعباد وتضييع لحقوقهم.
فلستُ أدري كيف يقبل قضاة مصر بالهُويّ إلى ذلك الحضيض، بعد أن لوّثوا سمعة القضاء المصري بأسره، حتى صار أضحوكة العالم؟
كيف سوّغوا لأنفسهم إصدار الأحكام جزافا، بلا دليل أو بديل عن الإجحاف المُتعمّد بالخصوم والتنكيل المقصود بكل من قال: (لا لدولة الباطل) .. التي أذاقت الشعب المكلوم الأمرَّين.
وددتّ لو أنني استعرضت بالأسماء كل مظلوم طالته أحكام هذا القضاء الجائر، ولكن حسبهم أن الله تعالى يعلمهم، هو أرحم بهم من الأم بوليدها.
*كان آخر تجليات القضاء الشامخ إحالة أوراق الرئيس المنتخب محمد مرسي، والدكتور يوسف القرضاوي الذي بلغ من العمر عتيّا، والعديد من قيادات دعم الشرعية وجماعة الإخوان، إلى مفتي الجمهورية تمهيدا لإعدامهم.
بصدقٍ.. أذهلنا القضاء بهذه السابقة الأولى في التاريخ على حد تعبير الدكتور أيمن نور رئيس حزب “غد الثورة”، فرأينا رئيسا يحاكم بتهمة التخابر.
والذي يحاكم هو رئيس جاء عبر الصناديق، خلال أول انتخابات نزيهة حرة، تعبر عن إرادة الشعب المصري، وهو ما يعيد للأذهان ذكرى إعدام رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس، بعدما انقلب عليه العسكر بسبب توجهاته الإسلامية، والتاريخ يعيد نفسه.
أذهلنا قضاء السيسي الشامخ عندما أصدر أحكامًا بالإعدام، ضد علي حسن سلامة الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال منذ 1996م وحتى اليوم.
بل وأذهلنا أكثر عندما أصدر أحكام الإعدام ضد الفلسطيني حسام الصانع والقائد رائد العطار، لا لشيء سوى لأن الأول استشهد عام 2008م والثاني استشهد العام الماضي 2014م، هل هناك مهزلة قضائية بهذا الحجم؟
رائع أن يحكم قضاء العسكر بالإعدام على رئيس جاء بانتخابات أشرف عليها هؤلاء العسكر وقبلوا به رئيسا لمصر.
ورائع جدًا أن يحكم قضاء العسكر بالإعدام على رئيس عرض عليه السيسي قبيل الانقلاب إعلان انتخابات رئاسية مبكرة، أو خروج آمن من السلطة.
يقول الكاتب المصري الأستاذ جمال سلطان: “وحتى في ترتيبات 3 يوليو كما كشف كثيرون بمن فيهم الرجل الثاني في مؤسسة الرئاسة وقتها “الدكتور محمد البرادعي” ـنائب رئيس الجمهوريةـ كان الاتفاق الأساسي هو شراكة للإخوان في المرحلة الجديدة ، فلما تمت الإطاحة بمرسي في أحداث 3 يوليو 2013 ، حتى إذا تعقدت الأمور رغم الوساطات الدولية التي رحب بها السيسي ، وصعب الوصول إلى تسوية ، بدأت الاتهامات تنهال وخرجت أوراقٌ وأحيل مرسي للمحاكمة مع الآلاف من قيادات وكوادر جماعته ، ثم انتهى الأمر إلى التمهيد لإعدامه بإحالة أوراقه للمفتي”.
أبشروا يا شرفاء مصر، فإن الحماقة من جنود الله:
حماقة السيسي جعلته يطلق قضاءه لإصدار تلك الأحكام الجائرة بالإعدام، في وقت انسدّ في الأفق السياسي والأمني، بل وفي المجال العام، فالأوضاع في مصر “حبلى بألف انفجار” كما عبر نزار.
جاءت الأحكام في وقت الإجماع على فشل السيسي حتى من مؤيديه، وفي وقت رفع الدعم عن البنزين، وارتفاع قيمة فواتير الكهرباء والغاز والمياه، وارتفاع الأسعار للسلع التموينية، والفقراء يتقلبون بين الأزمات الطاحنة التي قرضت عظامهم.
وجاء في وقت اشتعلت فيه عمليات العنف في سيناء وامتدت إلى سائر المحافظات، مع أنه كان يتحدث أيام التفويض قبل مجزرة رابعة عن مواجهة الإرهاب المحتمل، فإذ به يحوله بحماقته وغبائه السياسي والإداري إلى إرهاب واقعي فشل في التصدّي له وأخفق في اقتلاع جذوره.
وجاء في وقت تتحدث فيه القوى السياسية عن بديل للسيسي الفاشل، وطرحت فكرة الانتخابات الرئاسية المبكرة في أوساط المفكرين والنخب السياسية.
وجاءت في وقت أبدت فيه جماعة الإخوان المسلمين مرونة على لسان قادتها من استعداد الجماعة للتنازل عن مبدأ التمسك بعودة الرئيس مرسي إذا كان عائقًا للاصطفاف الثوري وعودة فرقاء ثورة 25 يناير من جديد، وهو ما يمكن أن يكون بداية للتنسيق بين القوى السياسية.
وجاءت الأحكام في وقت يرتب فيه السيسي لاكتمال آخر مؤسساته (البرلمان)، عن طريق الانتخابات المرتقبة التي تأجلت إلى أجل غير مسمى، الأمر الذي يعكس تخبط النظام ووهنه، فمن سيذهب إلى صناديق الاقتراع؟
من قُتل له ولد، أو اعتقل لها أب أو زوج؟ أو انتهك لها عرض؟!!
ستكون حتما فضيحة انتخابية أخرى.
إن الأحكام القضائية التي يصدرها قضاء السيسي ضد عناصر التيار الإسلامي وبصفة خاصة جماعة الإخوان المسلمين، لا يمكن فصلها عن علاقة السيسي بسلطات الاحتلال الإسرائيلي.
فالرجل أصبح بطلا قوميا في إسرائيل، ويتواصى الساسة والأكاديميون والنخب بضرورة دعمه باعتباره المخلص من خطر التيار الإسلامي في مصر، وهو ما امتلأت به الصحف الإسرائيلية.
فهو يؤدي مهمة خدمتهم على أكمل وجه بعد أن هدم الأنفاق وحاصر غزة، وشرد أهالي رفح، من أجل عيون نتنياهو، وهو يريد ألا تقوم للإسلام السياسي قائمة، فيخوض سباقا محموما مع الوقت لاستئصال رجاله، وتصفية رموزه، بل ومحاولة توريط المقاومة الفلسطينية في الأزمات الداخلية المصرية.
وأقول:
أبشروا يا شرفاء مصر، فهذه إن شاء الله تعالى الضربة الأخيرة، بل قولوا هي قاصمة الظهر لهذا السيسي.
الشارع المصري لن يتحمل الضغط أكثر من ذلك، ورفض هذه الأحكام صار محل إجماع من القوى السياسية المعتبرة، حتى المخالفة لتوجهات جماعة الإخوان من ليبراليين ويساريين ونحوهم، بل إن منهم من يضطر على مضض لأن يستنكر هذه الفضيحة حتى لا يصيبه عارها ويمس سمعته السياسية، فأبشروا ببداية الاصطفاف الثوري وعودة فرقاء الثورة.
أبشروا يا شرفاء مصر، فالمجتمع الدولي الذي ألفناه يكيل بمكيالين، يتصبب الآن عرقا من تلك الورطة الجديدة التي أوقعه فيها حماقات السيسي، وغدا سيضطر لرفع الغطاء عنه، وإن كنا لا نعوّل على ذلك.
أما أنتم يا طُغمة الظالمين:
قال جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي لأبيه وهم في القيود والحبس:
يا أبت، بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس.
فقال يحيى البرمكي: يا بني، دعوة مظلوم سرَت بليل، غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها”.
فأبشروا بدعوات المظلومين من أهالي الشهداء، والمعتقلين الأبرياء، والحرائر اللاتي ذبحتم شرفهن، والأيتام والثكالى، إنها تنطلق في جوف الليل حيث نومكم أو وقت لهوكم وعربدتكم، تغفلون عنها، ولن يغفل الله عنها.
{ولا تحسبنّ الله غافلا عما يعمل الظالمون}.