يفترض أن يكون اجتماع رؤساء أركان الجيوش العربية في القاهرة حدثا له رنينه الذي يثير درجات متفاوتة من الاهتمام والترقب ــ على الأقل فإن جيلنا يختزن ذكريات تحثه على تهيب اللقاء وأخذه على محمل الجد، باعتباره مؤشرا ينبئ بأن الساحة العربية مقبلة على تطور مهم. لكن ظهور أولئك الجنرالات في الصور هذا الأسبوع لم يكن له صدى يذكر في مختلف الأوساط، حيث لم يستوقف أحدا، وكان الإقبال على مطالعة الصور والتفرس في الوجوه أكثر من الاهتمام بمتابعة الكلام، لأنها ذكرت الناس بأن ثمة جيوشا عربية لا تزال موجودة على الأرض، وأن على رأس تلك الجيوش رتبا رفيعة ورجالاً يحملون ألقابا طنانة، ويتحركون في مواكب مهيبة. ورغم أن أحدا لم يلمس أثرا إيجابيا لجهودهم، ولم يستطع أن يجد إجابة شافية ومقنعة على السؤال: ماذا يفعلون؟
منذ حرب عام ١٩٧٣ ضد إسرائيل لم نسمع شيئا عن معركة خاضتها الجيوش العربية ولا عن اجتماع لرؤساء الأركان العرب حتى شحبت صورهم في الذاكرة بمضي الوقت. إذ ظل الحضور الأقوى لأجهزة الأمن والشرطة. وفي أحيان كثيرة انضمت الجيوش إلى أجهزة الأمن الداخلي، حتى بدا أن أداءها مقصور على مواجهة خصوم السلطة وجماعات المعارضة الداخلية (سوريا والعراق والجزائر مثلا، ولا ننسى أن الجيش اليمني الآن بموالاته للرئيس السابق علي عبدالله صالح أصبح أداة في يد انقلاب الحوثيين).
لقد نقل الرئيس الأسبق أنور السادات قوله عن حرب عام ١٩٧٣ إنها آخر الحروب. وقد تحققت تلك النبوءة بالنسبة للجيوش العربية فقط، التي لم تدخل في مواجهة ضد إسرائيل منذ ذلك الحين. بل لا يكاد الباحث يجد إشارة إلى احتمالات تلك المواجهة في خطاب رؤساء الأركان العرب. وحين تطرق بعضهم إلى احتمالات المواجهة فإن أحاديثهم كانت صريحة في أن العدو المقصود هو «الإرهاب».
تلك كانت ملاحظة أولى على اجتماع رؤساء الأركان العرب في القاهرة هذا الأسبوع. الملاحظة الثانية أن الجيوش العربية التي لم تخض معركة حقيقية منذ عام ١٩٧٣ (أي منذ ٤٥ عاما) تراجعت كفاءتها إلى حد كبير، حتى إن بعضها صار ينهزم ويفر أمام الجماعات المسلحة، كما حدث في الرمادي بالعراق، وفي أدلب وجسر الشغور في سوريا. وحين دخلت بعض تلك الجيوش في مواجهات مع الجماعات الإرهابية، فإنها لم تنجح في القضاء عليها، وهو الحاصل في دول عربية أخرى.
الملاحظة الثالثة إنه في حين خرجت الجيوش العربية من ساحة المواجهة مع العدو محتلا كان أم غازيا، فإن المجموعات المسلحة هي التي تولت المهمة وحققت نجاحا فيها، وهو ما فعله حزب الله في لبنان، وما فعلته حماس والجهاد الإسلامي والقوى الوطنية في غزة، وما قامت به فصائل المقاومة ضد الأمريكيين في العراق، وها نحن نجد المقاومة الشعبية في اليمن هي التي تتولى صد تمدد الحوثيين.
بقيت عندي ملاحظات أخرى تتعلق بموضوع القوة العربية التي اجتمع رؤساء الأركان العرب لتشكيلها قبل نهاية شهر يونيو المقبل، طبقا لقرار القمة العربية في شرم الشيخ. هذه الملاحظات تتلخص فيما يلي:
* ستكون مفارقة لا ريب أن تتولى القواعد العسكرية الغربية تأمين، وحراسة مصالحها المفترضة في كل الدول العربية المهمة، من الناحيتين الاستراتيجية أو الاقتصادية والنفطية، وفي الوقت ذاته تشكل قوة مسلحة عربية، لا يعرف بالضبط الهدف من وراء إنشائها.
* تشكيل القوة العربية وتشكيل مجلس أعلى للدفاع يفترض اتفاقا حول العدو وحول الأهداف الاستراتيجية. وحين ذكر أن المشاركة في تلك القوة اختيارية، فذلك يعنى أن ذلك الاتفاق ليس قائما، وأن الدول التي ستشارك فيها ستحدد موقفها في ضوء مصالحها وحساباتها الخاصة. فقد تستشعر مصر أنها بحاجة إلى غطاء لتدخلها في ليبيا، وقد تجد السعودية أن تدخلها في اليمن يحتاج بدوره إلى غطاء. وقد تتردد الدولتان في المشاركة في التحالف المناهض لتمدد تعظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا والعراق. والشيء المؤكد أن مشروع القوة العربية لا علاقة له بالقضية، التي كانت مركزية يوما ما، حيث لم يشر إلى إسرائيل من قريب أو بعيد في التصريحات والأدبيات ذات الصلة بالمشروع.
* اتصالا بما سبق، لا مفر من الاعتراف بأن العالم العربي مختلف الآن حول العدو الذي يتعين عليه أن يواجهه، وهل هو إسرائيل أم إيران أم أنه تآمر الأمريكان والغرب، وتلك مسألة فارقة، لأنه في غياب الاتفاق عليها يبدو الكلام عن القوى العربية مجرد غطاء لتصفية حسابات ضيقة لبعض الأنظمة، لا علاقة له بالمصالح العليا للأمة العربية.
* مشروع القوة العربية بصورته تلك إذا أضيف إلى التفاعل الحاصل والمنتظم بين وزراء الداخلية العرب، فإنه يبعث إلى الجميع برسالة خلاصتها أن العمل العربي المشترك بات محصورا على الدفاع عن الأنظمة وأمنها، وأن مصالح الشعوب وتطلعاتها في التقدم والنمو والحرية والعدل لم تعد مدرجة على جدول الأعمال. وعلى الشعوب أن تدبر حالها من باب آخر.