في عام 1991، اجتمع أكاديميّان “إسرائيليان” في مركز الأبحاث العلمي “فافو” في النرويج سرًا، مع مفاوضين من منظمة التحرير الفلسطينية. كان الاجتماع السري يهدف لبحث إمكانية إجراء اتفاق لمعاهدة تطبيعيّة يتم من خلالها الاعتراف بالكيان الإسرائيلي كدولة مقابل الاعتراف لا بدولة فلسطينية مستقلة على جزء من الأراضي الفلسطينية، وإنما بممثل للشعب الفلسطيني، بما عرف فيما بعد باتفاقية “أوسلو”، وهذه المفاوضات التطبيعية جرت في البداية تحت غطاء البحث العلمي الذي كانت تموّله الحكومة النرويجية من خلال مركز الأبحاث العلمي “فافو”.
الغرض من هذه التغطية هو إظهار أن المسألة لم تكن سوى مسألة أكاديمية في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق، اليوم وبعد 23 سنة من اتفاقية أوسلو، ما زالت العلاقات التطبيعية مرفوضة من قبل غالبية الشعوب العربية، رغم محاولات الأنظمة العربية تلميع دور وفائدة معاهدات السلام أمام شعوبها.
ومع نهوض حركة المقاطعة العالمية في الكثير من الدول الغربية ونجاح الكثير من الجهات الطلابية والمجتمعية بالضغط على الشركات التي تتعامل مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من أجل سحب الاستثمارات، لا تزال المقاطعة الأكاديمية الأكثر جدلًا لدى الكثيرين.
يعتقد البعض أن الأبحاث العلمية والأكاديمية يجب أن تكون في معزل عن إقحامها في السياسة لأن المجتمع العلميّ من المفترض أن يكون مساهمًا في تطوّر الإنسانية بشكل عام. ولكن الواقع -للأسف- يخالف هذه النظرة، خاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
فقد استخدمت “إسرائيل” الغطاء الأكاديمي وما زالت تستخدم المؤسسات الأكاديمية والعلمية التابعة لها لإضفاء شرعية على دولة الاحتلال ولتلميع صورتها في الخارج من خلال إظهارها كدولة متقدمة علميًا وتكنولوجيًا بالمقارنة بالدول العربية المجاورة، في ما يسمى أحيانًا بالـT ech-Washing.
وبالطبع يعود السبب الأكبر وراء هذا التفوق التكنولوجي إلى الدعم الحكومي للأبحاث العسكرية، المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، كمشروع القبة الحديديّة الممول أمريكيًا، هذا في ظل الغياب شبه التام للأبحاث العلمية -والعسكرية تحديدًا- في أي دولة عربية.
تستخدم “إسرائيل” المؤسسات الأكاديمية والعلمية التابعة لها لإضفاء شرعية على دولة الاحتلال ولتلميع صورتها في الخارج.
لم يقتصر استغلال الوضع الأكاديمي على هذا وحسب، فالجامعات الإسرائيلية المختلفة تقدم خدمات إعلامية وبحثية لجيش الاحتلال، عن طريق تقديم تقديم أبحاث عسكرية تسهم في تطوير المنطومة القتالية، ناهيك عن الدعم المادي من خلال إعطاء منحٍ طلابية للمنتسبين للجيش الإسرائيلي، ودعم معنوي وإعلامي في تبييض جرائم الحرب التي ترتكبها المنظومة الإسرائيلية.
كما يتم التضييق على الطلبة الفلسطينيين الذين يدرسون في الجامعات الإسرائيلية في معدلات قبولهم وفي نشاطهم الطلابي. بل يتم التضييق على الأكاديميين اليهود المعارضين للصهيونية وطردهم من الجامعات.
ومع هذه الأسباب وغيرها، فإن المقاطعة الأكاديمية تصبح أمرًا مشروعًا وأخلاقيًا. ومن خلال البحث الأكاديمي، تسعى “إسرائيل” إلى الزج في الشباب العربي إلى مسار التطبيع.
في الأردن، تتم المراحل الأخيرة لبناء مركز للأبحاث العلمية الفيزيائية يحتوي على مسارع جزيئات، هو الأول في الشرق الأوسط يدعى سيسامي (SESAME) والذي يقام في منطقة علّان في مدينة السلط بتمويل من الأمم المتحدة وبدعم من مركز سيرن (CERN).
ووفقًا للصفحة الرسمية لمركز الأبحاث، فإن أحد أهداف المركز الرئيسة هو تعزيز السلام بين دول المنطقة. وتشمل دول المنطقة وفقًا للصفحة: البحرين والأردن وإسرائيل وإيران ومصر وقبرص وتركيا وفلسطين وباكستان.
وتشارك في إدارة المركز لجان من جميع هذه الدول، ويشغل منصب نائب رئيس المركز الأكاديمي الإسرائيلي أليزار رابينوفيشي من الجامعة العبرية التي ساهمت بشكل مباشر بتبييض جرائم الاحتلال أثناء العدوان الأخير على قطاع غزة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
لا شك أن الكثير من الشباب العربي توّاق للإبداع والبحث العلميّ، خاصةً إذا كان هذا الإبداع نابعًا من بلدٍ عربي.
ولا شك أن الكثير سيعمد إلى محاولة فصل السياسة عن العمل العلميّ بحجة أن لا علاقة تربط بين الأمرين. ولكن في العمل التشاركي العلميّ، فإن روح العمل الجماعيّ في الفريق الواحد يجب أن تتوافر من أجل نجاح المشروع البحثي، شأنه في ذلك شأن أي عمل جماعي، وبالتالي فإن عمل الباحث العربي مع الباحث الإسرائيلي سيطبّع العلاقات بينهما، أو كما قالت د. زهرة سيريس رئيسة اللجنة الإستشارية العلمية في سيسامي : “عندما يتواصل الباحثون مع بعضهم من خلال لغة العلم فإنهم يكتسبون ثقة متبادلة فيما بينهم، وتكون هذه أولى قنوات التواصل التي بنيت فيما بينهم”.
إضافة إلى أن هذا كله سيتم توظيفه إعلاميًا من قبل الاحتلال للقول بأن العملية التطبيعية تجري بنجاح وأن المجتمعات العربية -الشبابية خاصة- قد بدأت بتقبل وجود دولة إسرائيلية.
إن التعامل مع الدولة الإسرائيلية والاعتراف بها وتقبّلها من قبل الشباب العربي حتى لو كان هذا التقبل في سبيل العلم، هو جزءٌ من شرعنة نظام استعماري استبدادي قَتَل وهجّر مئات الألوف من الفلسطينيين، واحتل و ما زال يحتل الأراضي الفلسطينية وأراضٍ سورية ولبنانية.
وإذا كان المئات من أكاديميي أوروبا قد دعموا وتبنوا المقاطعة الأكاديمية ضد الهيئات الإسرائيلية الأكاديمية والثقافية، وعلى رأسهم عالم الفيزياء النظرية ستيفين هوكينغ ، فإنه من الأولى بالأكاديميين والعلماء العرب نبذ هذا النوع من التحالفات، فلا قيمة لعلم لا يخدم العدالة والإنسانية.