إذا كان خلق آدم وإسجاد الملائكة له وإسكانه وزوجه في الجنّة السماوية هي اللحظة التأسيسية للوجود الإنساني، فينبغي أن تكون أيضا اللحظة التأسيسية للوعي الإنساني، وهي فعلا كذلك إذ تضمنت هذه اللحظة تعليم آدم الأسماء كلها، وإظهار كرامة خلقه ووجوده على العالمين، والمعنى الذي يمنحه الوجود الإنساني لوجود الكون كله، وعلاقة العوالم الأخرى بوجود هذا الإنسان ونوازع الخير والشر التي ركّبت فيه، فتعلق بعض من وظائف العوالم الأخرى –كالملائكة والجنّ- بوجود هذا الإنسان، ليكون الإنسان “معنى الكون كله” كما يقول النفري في مواقفه.
وتتضمن هذه اللحظة، المعين الذي يمتح منه الإنسان الإجابة على أسئلته المعضلة، أو يتدبر فيه حكم وجوده، وما انبثق عنه من مسار الكبد الطويل، الذي انطبع بالاختبار والتكليف، وقد كانت تلك اللحظة لحظة اختبار وتكليف أيضًا، ولم يكن فيها الإنسان بمنأى عن نوازع النفس وهواجسها وآمالها وطموحاتها ومخاوفها وغرائزها، كما لم يكن بمنأى عن تأثير العوالم الأخرى على نوازعه تلك المركّبة فيه، ذلك أنّه ما خُلق إلا ليُجعل في الأرض “إني جاعل في الأرض خليفة”.
ولذا حذّره ربه من إبليس، أن يخرجه من الجنة السماوية، والتي يبدو أنها جنّة اختبار وسيطة، ما بين أرض الاختبار، وجنة الخلد المقيم، “فقلنا يا آدم إنّ هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى”، ثم أمره بالتكليف الأول، ونهاه عن الأكل من شجرة مُعَينة “وَيَا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين”، وبكلمة أخرى أمرهما بصوم مخصوص، وهو الامتناع عن هذه الشجرة، وكأنّ الصوم كان أول، أو من أول، ما كلّف به الإنسان، وإن كان الإنسان في تلك اللحظة قد صام عن مجهول، وإن كان مرئيًّا محسوسًا، إذ لم يكن لآدم سابق معرفة بتلك الشجرة، فإنه على أي حال كان صومًا.
وتبدو أسبقية أو أقدمية هذا التكليف للإنسان، مما يعين على فهم أهمية وخطورة هذا التكليف بالذّات، وهو التكليف الذي عَبّر عنه الله بقوله “كُتب عليكم الصيام”، في استخدام للفظ شديد الإلزام والتأكيد على الفرض، وهو اللفظ الذي استُخدم أيضًا في حالة القتال، “كُتب عليكم القتال وهو كره لكم”، إذ يجتمع في القتال والصيام معنى المجاهدة، وينطبع كل منهما بالمشقّة، ويحتاج كل منهما إلى الصبر، وإخضاع النفس في كل منهما متقارب، فهو في الصوم منع لها عن شهواتها المباحة استجابة لأمر الله، وفي القتال بيع للنفس في سبيل الله، وفي الصوم امتناع عن المباح الذي تقوم وتستمر به الحياة (الطعام والشراب والجنس)، ملذات الحياة الدنيا الألصق بالإنسان، والأشد استبدادًا به، وفي القتال بيع للحياة بكل ملذاتها.
وبين الصيام والقتال علاقة متلازمة، إذ إن أحدهما، وهو الصوم معركة في الداخل (داخل النفس)، مستمرة وقائمة، لا تنقطع إلا بعذر يحدده الله، والقتال معركة في الخارج، مراغمة للباطل، استجابة لأمر الله وقيامًا بالواجب، فيعيش الإنسان في مستويين من الجهاد، ينطلق فيهما الإنسان من المستوى الذاتي إلى الخارج، ويعود من الخارج إلى الداخل، فلا يمكن للإنسان القيام بواجبه في الخارج، في مدافعة الباطل إلا بإقامة النفس على ما أراد الله، فحضر الصيام أبدًا تكليفًا إلهيًّا لكل الأمم التي تنزّلت فيها الرسالات، “كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم”، ولكن يبدو أن الأقدمية مغرقة في القِدم مع لحظ الوجود الإنساني الأولى، ونهي آدم عن الأكل من تلك الشجرة.
أي إن واجب الإنسان في الخارج تحرير الوجود من الباطل والظلم والطغيان وكل نقيض للعدل والحقّ، أي مدافعة كل أشكال استعباد البشر لبعضهم، أو كل أشكال امتهان الكرامة الآدمية، وهذا لا يتأتى إلا بتحرير الداخل من كل العبوديات التي تنحط بالإنسان، وتهبط بكرامته، ولا يمكن للإنسان أن يتحرر من تلك العبوديات إلا إذا أقام نفسه على أمر الله.
ومن هنا كاد إبليس لآدم، “فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين”، فقد نهاهما الله عن الأكل من الشجرة، ولكن مكيدة الشيطان كانت بأن جعلت للرأي البشري مدخلاً في الأمر الإلهي بما لا يُشعر آدم وزوجه بالمعصية، فصوّر لهما أنهما بين أمرين، أن يمتنعا عن الأكل فيصيرا ملكين، أو يأكلا فيصيرا من الخالدين، أي وكأنه يقول لهما “إن ربكما نهاكما عن الشجرة كي تصيرا ملكين، فإن أكلمتما صرتما من الخالدين”، وهذا هو تأويل شيخنا الشيخ بسام جرار.
وهما حتمًا لا يريدان أن يكونا مَلَكين، وقد أُسجدت لآدم الملائكة، فتأوّلا الأمر الإلهي، طلبًا للخلود، فحصلت المعصية، وتكشّف العنصر الآدمي المسيء “فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى”، وهكذا حينما يتخذ الإنسان مرجعية أخرى تزاحم الوحي، أو أن يجعل أي مرجعية أخرى حاكمة للوحي، لا محكومة به، كأن يجعل الوحي محكومًا بالدولة أو بالسياسة أو بالجماعة أو بهوى الفرد، أو بغير ذلك، لا مناص بعد ذلك من أن يهبط من كرامته إلى حمأة المادة الشقية.
وإذ كان الأمر كذلك، فقد نودي المؤمنون بهذا التكليف، أي الذين يتخذون من الوحي وحده مرجعية لهم “يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”، والغاية هي الصعود بالإنسان إلى مراتب التقوى، والتي الذروة فيها، تخلص الإنسان من كل العبوديات التي تجول في نفسه، وصولاً به إلى لحظة آدم الأولى قبل أن يعصي عن أمر ربه، وقد كرم الله بني آدم، وجعل أكرمهم عنده أتقاهم له.