لن يكون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو نفسه بعد زلزال محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرّض لها. قد يصبح أكثر قوةً وشراسةً في مواجهة خصومه في الداخل، لكن الوضع سيكون معكوساً تماماً في سياسته الخارجية.
أولوية أردوغان المقبلة ستتمركز في “ترتيب البيت الداخلي”، وفي مواجهة المعسكر الضخم من خصومه في الداخل. صحيحٌ أنه نجح، إلى الآن، في وقف مسلسل الانقلابات في الداخل، إلّا أنّه اكتشف، كما أدرك خصومه في الخارج أيضاً، أن وضعه الداخلي كان هشّاً، على الرغم من الكاريزما الكبيرة والشعبية الهائلة التي يتمتع بها، إلّا أنّ هنالك مراكز قوى فاعلة وقوية، لها ارتباطات فاعلة في الخارج، تعمل ضدّه، ولن تكون الضربة التي تلقتها نهاية الحرب، بل ربما بدايتها الحقيقية.
أمام أردوغان اليوم عملية شاقة وكبيرة في إعادة هيكلة القوات المسلحة التركية، وإزالة مخرجات ما حدث في أثناء المحاولة الانقلابية، وما تلاها من تصفية نفوذ حركة فتح الله غولن، وحلفائها في هذه المؤسسة السيادية الكبرى، وهي عمليةٌ لن تمرّ بسهولة، بخاصة أنها مترابطة مع المشهد السياسي، وما يشهده من استقطابٍ كبير، وبمؤسساتٍ أخرى مدنية، مثل القضاء والتعليم.
سينعكس هذا وذاك، بالضرورة، على سياسة أردوغان الخارجية، إذ وجد أن معسكر حلفائه وأصدقائه المفترضين هو الآخر هشّ ومعقد. فعلاقة أردوغان بأوروبا والولايات المتحدة الأميركية ليست في حال جيدة، وموقفهم المتذبذب والملتبس، خلال محاولة الانقلاب وبعدها، أكد تماماً أنّه غير مرغوب به لدى هذه الدول.
لا يريد الغرب رجلاً قوياً يحكم تركيا، ويقف بنديّةٍ في مواجهة هذه الدول. يريد تركيا في الجيبة، أو على الأقل مطيعةً ولينة معهم. وعلى الأغلب، سيعزّز الزلزال الذي حدث من الهواجس المتبادلة بين الرئيس التركي والغرب، وسيعيد النظر بعلاقته معها، هذا قبل أن تتكشف فصول أخرى من أسرار محاولة الانقلاب وحيثياتها، والأطراف المتورطة فيها، أو التي لم تكن لتعارضها.
أدرك أردوغان، قبل الانقلاب الفاشل، حجم المأزق في السياسة التركية، ومراوغة أوروبا وأميركا معه، ولم يكن ليخفى عليه أن “المعسكر العربي المحافظ” يكنّ له العداء، بعد أن راهن على الربيع العربي، ودعم قوى التغيير فيه. في الوقت نفسه، دخل أردوغان في صدامٍ شديدٍ مع المحور الثاني في المنطقة، روسيا وإيران، وخسر صداقته السابقة معهما، وبدت تركيا محاصرةً إقليمياً ودولياً، ووحيدةً في مواجهة العالم كله. ولم تفلح سياسته في “تحييد داعش” في المعركة، فأصبحت دولته أحد أبرز أهداف التنظيم، وشعر بالمرارة عندما وجد التعاطف معه أوروبياً وغربياً محدوداً جداً، في مواجهة العمليات الإرهابية التي تعرضت لها بلاده من “داعش”.
لم يكن الصراع مع الأكراد خارج هذه الحسابات، إذ أصبح أكبر التحدّيات للأمن القومي التركي، مع نمو الطموح الكردي في المناطق الجنوبية الكردية، والتحالف الواقعي بينهم وبين الولايات المتحدة الأميركية في شمال سورية، لمواجهة تنظيم داعش، ومع الاستدارة التي قام بها الغرب في سياسته تجاه نظام الأسد في سورية.
في المحصلة، بدأ أردوغان باستدارته الخارجية قبل الانقلاب الفاشل، فاعتذر لبوتين وطبّع علاقته مع إسرائيل. وهنالك مؤشرات على تدوير الزوايا الحادة في موقف تركيا تجاه سورية ومصر، وهي استدارةٌ لن تتوقف في المرحلة المقبلة، بل ستتعمق وتتجذّر، وعلى الأغلب سيكون أردوغان حريصاً على تحسين علاقته بكل من روسيا وإيران وتمتينها، وتقديم تنازلات بهذا الخصوص، بعدما تأكّدت حقيقتان أساسيتان؛ الأولى هشاشة الوضع الداخلي التركي، والثانية أوهام “الناتو” والتحالفات الدولية الإقليمية والدولية.
بالضرورة، لن تنعكس هذه المتغيرات الجديدة بصورة مباشرة وفورية على أرض الواقع، لكنها ستترجم بصورةٍ متدرجةٍ في المرحلة المقبلة، وعلينا، نحن العرب، أن نعدّ أنفسنا لتراجع الدور التركي الفاعل في مواجهة التحدّيات التي تواجهنا.
بعد ذلك، يبدو السؤال مشروعاً لنا، عربياً، أيضاً، فيما إذا كانت رهاناتنا الاستراتيجية أفضل اليوم بعد هذه التطوّرات أم أكثر تعقيداً وضعفاً؟ وفيما إذا ضيّعنا فرصة التحالف مع تركيا في مواجهة التحديات الإقليمية والتحولات في الدور الأميركي والنفوذ الإيراني والتحالف الروسي- الإيراني، أم أن لدى ساستنا رأياً آخر؟