القائد الوطني الحقيقي هو الذي يحقق أكبر الانجازات لبلاده بأقل الخسائر البشرية والمادية، فلا يورط شعبه ولا وطنه في أي مغامرات تعود على الشعب والبلاد بكوارث مادية وبشرية هائلة من أجل تحقيق أهداف هزيلة. ويعمد القادة الأوروبيون والأمريكيون عادة على إنجاز أكبر الأهداف الاستراتيجية بأقل الخسائر البشرية، وقد تعلم الرئيس الأمريكي الحالي أوباما الدرس جيداً من سلفه الأخرق جورج بوش الذي كلف أمريكا كثيراً على الصعيدين البشري والمادي في أفغانستان والعراق، فامتنع أوباما عن التورط في المستنقعات الشرق أوسطية في العراق وسوريا وليبيا والعراق واليمن، وبدلاً من ذلك اعتمد على قوى خارجية لتحقيق أهدافه في المنطقة، مستخدماً تكتيك القيادة من الخلف كي لا يدفع ثمناً مادياً وبشرياً هائلاً مقابل الأهداف الأمريكية المنشودة.
وبينما كلف جورج بوش الابن أمريكا مليارات الدولارات في العراق وأفغانستان، حقق أوباما أهدافاً أكبر بأشلاء العرب وأموالهم دون أن يخسر دولاراً أو جندياً أمريكياً واحداً.
وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، ألا أنه يُحسب له أنه خاض كل معارك سوريا على أراضي الآخرين، ونجح نجاحاً باهراً في تجنيب سوريا الكثير من الكوارث والحروب والمؤامرات والأفخاخ الإقليمية والدولية. لا أحد ينكر أن حافظ الأسد تاجر بالقضية الفلسطينية وبلبنان والعراق، لكنه في الآن ذاته كان يحاول دائماً أن يُبقي سوريا شعباً ووطناً بعيدة عن أتون النار الإقليمية والعربية، فحارب في لبنان، واستخدم الفلسطينيين لأهدافه السورية، ولم يتوان عن إرسال قوات سورية لمحاربة النظام العراقي إلى جانب قوات التحالف التي قادتها أمريكا لإخراج قوات الرئيس العراقي الراحل صدام حسين من الكويت. كل ذلك لتأمين مصالحه ومصالح بلاده.
قل عن حافظ الأسد ما تشاء، وستكون على حق، لكن لن تجد سورياً واحداً مؤيداً أو معارضاً يمكن أن يتهمه بتعريض سوريا الشعب والوطن للخطر. لقد نجح الأسد الأب على مدى عقود في حماية سوريا واستغلال القوى الدولية والإقليمية لتأمين بلده. وبينما نجد إيران الآن تدير سوريا من بابها إلى محرابها، كان حافظ الأسد يتلاعب بالإيرانيين، ويستغلهم من أجل حماية نظامه وبلده، بحيث تنفس القادة الإيرانيون الصعداء عندما توفي حافظ الأسد. وقد قال مسؤول إيراني كبير وهو يعزي بوفاة الرئيس السوري في السفارة السورية في طهران حرفياً: ” لقد أزاح الله الجبل من أمامنا”، قاصداً طبعاً حافظ الأسد. وقد سجل السفير السوري صقر الملحم كلمات المسؤول الإيراني وقتها الذي ظن أن لا أحد يفهم اللغة الإيرانية وهو يوقع سجل العزاء في السفارة، لكن السفير الملحم كان يتقن الإيرانية، ونقل ما قيل على لسان المسؤول الإيراني في كتاب جديد للملحم حول تجربته الدبلوماسية.
لقد ارتكب الاسد الأب مجازر يشيب لها الولدان بحق السوريين، وخاصة في حماة، لكنه حافظ على سوريا، ولم يحولها إلى ملعب لم تبق جهة إلا واستخدمتها لتصفية حساباتها على أراضيها. وظلت سوريا على مدى فترة حكم الأسد الأب قوة عربية يُحسب حسابها. أما اليوم، فلم يعد السوريون يمسكون بزمام أمورهم في عهد الأسد الابن، بعد أن أصبحت القيادة السورية مجرد أداة في أيدي إيران وروسيا وحتى بعض الميليشيات الطائفية القذرة. لم يعد هناك هدف لدى القيادة السورية الحالية سوى الحفاظ على سلطتها حتى لو تشرد نصف السوريين، وتحولت ثلاث أرباع سوريا إلى ركام، وأصبحت العملة السورية برخص التراب. لقد أصبحت السيادة السورية في عهد بشار الأسد محصورة بين الأرجل الأربع للكرسي الذي يجلس عليه بشار، ومع كل ذلك ما زلنا نسمع أبواق النظام وهي تتفاخر بحنكتة وبراعته في القيادة. وأكثر ما يقهرني عندما أسمع بعض التافهين من سياسيين وإعلاميين يطبلون ويزمرون لبشار الأسد وهم يستغلون أي حادثة داخلية أو خارجية ليصوروها نصراً مؤزراً لصالح القيادة السورية، لا بل ينسبونها لذكاء وبراعة القيادة التاريخية. فحتى لو وقع حادث في جنوب غرب المريخ، يخرج علينا بعض السخفاء ليقول إن أكبر المستفيدين من الحادثة سيادة الرئيس بشار الأسد، وكأنه يريد أن يقنعنا بأن بشار يدير العالم بذكائه الخارق وقيادته الفذة. لا شك أن النظام السوري الحالي مقامر ناجح جداً، وغالباً ما يربح، لكنه يقامر بأشلاء سوريا شعباً ووطناً من أجل مصالح سلطوية ضيقة جداً على عكس القادة العظام الذي يفعلون المستحيل لتجنيب بلادهم وشعوبهم الكوارث.
وعندما أسمع بعض المشعوذين ييتباهى بفن القيادة لدى النظام السوري أتذكر ذلك الشخص الذي سطا على بيته مجموعة من اللصوص، وراحوا يعبثون بمحتويات البيت، ويغتصبون بعض أفراد العائلة، ويقتلون البعض الاخر، بينما رب البيت يتحالف، ويناور مع اللصوص لإنقاذ رقبته، فيما اللصوص يعيثون اغتصاباً وخراباً ودماراً ببيته. لقد أصبحت القوادة على الوطن في نظر المطبلين والمزمرين لنظام الأسد الصغير استراتيجية سياسية عظيمة وحنكة وحكمة لا مثيل لها في التاريخ السياسي. ونحن نقول لهم: لا شك أن بعض الزعماء قد ينجح في الاستعانة بكل حثالات الأرض لحماية نظامه وعرشه، ولو على حساب تدمير وطنه وتشريد شعبه. وفي هذه الحالة يكون الزعيم قواداً وليس قائداً.
شتان بين القيادة والقوادة.