على شاشة التلفزيون قال السيناريست الشهير إنه يريد من الرئيس محمد مرسى أن يحدد موقفا واضحا من أمرين هما مسألة بيع قناة السويس والتنازل عن بعض أراضي سيناء للفلسطينيين. كان الرجل يتكلم بثقة موحية بأن الأمر جد ولا هزل فيه. حتى خيل إليَّ أنه سوف يسترسل في التساؤل عن احتمالات بيع أهرامات الجيزة. واحتكار إحدى شركات المياه الغازية لمياه نهر النيل، وتأجير دلتا النيل مفروشة للمستثمرين والسياح العرب والأجانب!
المشكلة بالنسبة لي لم تكن في الإجابة عن التساؤل، ولكنها كانت في الحالة العقلية والنفسية التي جعلت صاحبنا مستعدا لتصديق إمكانية بيع قناة السويس أو التنازل عن جزء من سيناء. وهي الفكرة التي لا يصدقها أي أبله أو معتوه في مصر.
لست أشك في أن الرجل يدرك استحالة حدوث ما استفسر عنه، ويعرف أن الإجابة عن السؤالين بالنفي قطعا، بالتالي فإنه لم يكن ينتظر الإجابة بقدر ما أراد أن يُحدث نوعا من البلبلة تجعل السؤال واردا. وهو ما تعلمناه في الصنعة ضمن فنون الغمز واللمز. التي يكون السؤال فيها أهم وأخطر من الإجابة، لأنه يستدعي إلى ذهن المتلقي ما لا يخطر على البال.
كنت قد سمعت هذه التساؤلات على لسان الفريق أحمد شفيق أثناء حملته الانتخابية، ورغم أنه بدا صادما آنذاك، إلا أنني اعتبرته من تجليات الصراع الشرس الذي دار بين المتنافسين على الرئاسة، والذي بدا فيه أن ما ليس معقولا صار مقبولا ومعقولا (ترشيح الفريق أحمد شفيق وقبله اللواء عمر سليمان نموذج لهذه الحالة). ولم يخطر على بالي أن يستمر القصف باستخدام ذات الأساليب والأسلحة بعد انتهاء المعركة، لكن كلام السيناريست المحترم خيَّب ذلك الظن. وحين توازى إطلاق كلامه مع بث بعض البرامج التلفزيونية التي شنت هجوما عنيفا وجارحا ضد الدكتور محمد مرسي، بدأت أنظر إلى الحملة من زاوية مختلفة، ذلك أن بعض مقدمي تلك البرامج مارسوا بحق الرجل مستوى من «الردح» المتدني غير مسبوق وغير مألوف. حينئذ تراجع عتابي نسبيا على السيناريست. وقلت إن سؤاله كان خبيثا وسمجا حقا، لكنه كان مؤدبا في طرحه، في حين أن البرامج التي أعنيها لم تكن أبعد ما تكون عن أدب الحوار بمفهومه المهني فحسب، ولكنها كانت بعيدة عن الأدب بمفهومه الأخلاقي والتربوي، الذي يتلقاه الأبناء في البيوت منذ نعومة أظافرهم.
وسائل الإعلام شاركت في الحملة على نحو يثير الدهشة ويصعب تصديقه. إذ بات مألوفا أن تنشر بعض الصحف الصفراء عناوين تتصدر صفحاتها الأولى من قبيل: الرئيس الفضيحة ــ الرئيس عاجز ــ الفاشي في قصر الرئاسة ــ الرئيس الخادم ــ رئيس في خدمة الأمريكان ــ وفي خدمة قطر ــ وصنع (الرئيس) في أمن الدولة ــ عضو بالكونجرس يقول أمريكا اشترت مرسي بـ50 مليون دولار ــ محمد مرسي الأسطورة الكاذبة ــ مرسي يدير مصر بلعبة الثلاث ورقات..إلخ.
هذا قليل من كثير نشر خلال الأيام العشرة التي أعقبت أداء الرئيس لليمين القانونية. وهو من قبيل اللا معقول الذي تحفل به الصحف المصرية هذه الأيام، ويوجه إليه بجرأة غير عادية إهانات يومية وسبابا يقع أغلبها تحت طائلة القانون، الأمر الذي يعيد إلى أذهاننا ما جرى في ستينيات القرن الماضي، حين سافر الرئيس عبدالناصر في رحلة إلى باكستان، وفي يوم وصوله نجحت أجهزة الأمن من اصطياد سفاح مطارد وقتله. حينذاك خرجت صحيفة الأخبار بعنوان على صفحتها الأولى يقول «مصرع السفاح»، وتحته عنوان آخر تحدث عن «عبدالناصر في باكستان». واتهمت الجريدة بسوء القصد في ذلك الحين، لأن قراءة العنوانين في جملة واحدة أعطت انطباعا أغضب الرئيس بشدة. وكانت تلك ذريعة استخدمت لتأميم كل الصحف المصرية في شهر مايو عام 1960.
وليس بعيدة عن أذهاننا قصة جريدة الدستور ــ الأولى ــ التي نشرت في عام 2007 تقريرا تحدثت فيه عن مرض الرئيس السابق حسني مبارك، وبسببه قدم رئيس تحريرها الزميل إبراهيم عيسى للمحاكمة، وصدر ضده حكم بالحبس ستة أشهر خفضت إلى شهرين، لكن الرئيس عفا عنه بعد ذلك.
الخلاصة أننا لم نعرف في التاريخ المصري المعاصر جرأة على كرامة رئيس الدولة مماثلة لتلك التي تمارس في وسائل الإعلام هذه الأيام. ولا أستطيع أن أفترض البراءة فيما يجري، لأننا إذا فهمنا حدوثه أثناء المعركة الانتخابية، فإن الأمر لابد أن يختلف بعد انتخاب الرئيس. ولا مفر من الإقرار بأن استمرار الحملة بنفس الشراسة وبذات اللغة الهابطة والتطاول المعيب لا علاقة له بحرية التعبير، التي نعلم أن لها ضوابط وآدابا وسقفا. ولست مشغولا بما سيفعله الرئيس في هذه الحالة، فذلك شأنه هو وفريقه. لكن أكثر ما يهمني هو تفسير الحملة التي يراد بها تدمير صورة الرئيس والحط من قدره وكرامته. لأنني أشم فيما يجري رائحة اغتياله بواسطة الإعلام بعد فشل إسقاطه من خلال الانتخابات. وتصبح تلك الرائحة أقوى وأشد إذا وضعت الحملة الإعلامية التي يقودها عناصر ليست بعيدة عن الدولة العميقة جنبا إلى جنب مع محاولات إثارة الفوضى وتوسيع نطاق المطالبات والإضرابات الفئوية. لذلك فالسؤال المطروح هو: هل المراد إفشال الرئيس بعدما خاب أمل إسقاطه؟ ولحساب من يحدث ذلك؟