هو كتاب ثقيل وزناً و محتوى، من تأليف الأمريكى الأثقل فكراً توماس فريدمان. هو الحقيقه مش كتاب … هو رسالة دكتوراه عن "تاريخ" القرن الواحد و العشرين … نعم تاريخ، فالتطور الذى يحدث فى العالم كل ثانيه اكثر بكثير من معدل التطور الذى حدث فى قرون ماضية.
قرأت و إستمتعت و ضحكت و إستفدت و حزنت و إستوعبت و عرفت … مشاعر كثيرة مرت بى و انا أنهل من الكتاب The World is Flat فى طبعته الثالثة التى أضاف إليها فريدمان الكثير حتى يلاحق التطور الكبير الذى حدث للعالم منذ صدور الطبعة الأولى عام 2005.
فلنبدا بتفسير المقصود من العنوان:
عندما قال جاليليو إن الأرض كروية … كان قصده إنك إذا وقفت فى مكان ما و بصيت لقدام لن ترى أخرها مهما كان الجو صحو … وكان يقصد أن فى اى وقت يوجد نصف منير ونصف آخر مظلم، نصف صيف و نصف شتاء .. وهكذا.
ولكن توماسيليو يقول، أن التكنولوجيا الحديثة و عوامل اخرى كثيرة قد سطحت كوكبنا مثل الحصيرة … فكلنا نرى بعضنا البعض بمنتهى الوضوح، وممكن "ننده" على بعض بالصوت والصورة بمنتهى السهولة، أيضاً ممكن شمس إقتصاد حارقة تحرقنا كلنا أو سحابة سياسية طائشة تمطر علينا وتغرقنا مهما تفرقنا فى أركان كرتنا الأرضية التى تجمعنا … لم يعد هناك إناس فى الظلام بردانين يراقبون إخواتهم اللى فى النور دفيانين، فالظلام و البرد أصبح من إختيار الشعوب و بمزاجها و بكسلها، و ممكن بسهولة لو عايزين، ياخدوا وصلة نور و دفا من اللى جنبهم بسهولة.
فريدمان يستشهد بالشركات الهندية التى تقدم خدمات تبدو غير معقولة … مثل شركة طبية هندية تكتب تقارير الأشعات المقطعية والمغناطيسية لمرضى أمريكيين بيتصوروا فى أمريكا… بسيطه، الصور تخزن على سيرفر المستشفى، و يدخل عليه طبيب هندى معه رخصة عمل أمريكية، وجالس فى فى الهند بجانب عائلته … يرى الأشعات ويكتب رأيه فى كل حالة. ييجى الطبيب المعالج الأمريكى تانى يوم الصبح يطبع التقرير من على كمبيوتر المستشفى.
حتى الإقرارات الضريبية الأمريكية يقوم بها محاسبين هنود فى بنجالور (مدينة هندية تكنولوجية تخصصت فى بيزنس الـ Outsourcing) … فريدمان تقريباً لف العالم حتى يكتب كتابه هذا، الذى عقد قرانه مع عقلى بطريقه من أبسط ما يكون و لكنها عميقه التأثير، ففى البداية يبدأ فريدمان بدراسة الأسباب ثم تحليلها ثم وضع الإمثلة المحلولة مع إستنباط القوانين التى تحكم هذا النظام العالمى الفريد، ثم بعدها يقدم نصائح و توجيهات للى عايز يستفيد.
حاور فريدمان الكثيرين وأبدع فى التنقل بين أراءهم … فتجده مثلاً يقول: "كنت مع رئيس شركة سونى و قال لى ….. لكن رئيس شركة بهارات الهندية كان رأيه … أما صاحب شركات بوينج فقد قال لى و إحنا بنتغدى فى أبو شقرة …….." كده يعنى، فى جمل قصيرة تجده لف بلدانا كثيرة … حتى أنك تقتنع فعلاً بمدى فلطحة هذا العالم بطريقة غير مباشرة.
حتى اعطى صوره مختصره لما تحتويه هذه الموسوعه الفكريه عن حاضر و مستقبل كوكبنا، أترجم لكم بعض عناوين فصوله الهامه: كيف تفلطح العالم (أسباب الفلطحه العشره – عوامل التقارب – التصنيف الكبير)، أمريكا و العالم المفلطح، الدول النامية والعالم المفلطح، الشركات والعالم المفلطح، أنت … أيوه أنت، و العالم المفلطح (كيف تستفيد بصورة شخصية منه بدلاً من ان تقعد تشيّش و تتجاهله)، الجغرافيا السياسية والعالم المفلطح (الجزء غير المفلطح … ليه و إزاى و يعمل إيه).
من الصعب بل و من المستحيل التعرض لكل ما جاء فى كتاب 600 صفحه بهذا العمق والقوة فى مقالة واحدة، و لكنى أجد أن عرض الجزء التالى (بعد ترجمته و تلخيصه) يوضح مدى قدرة المؤلف على عرض المشكله من وجهة نظر المواطن العادى مع تقديم حلول منطقيه لصانع القرار اللاهى:
"يخشى الكثيرون على مستقبلهم و مستقبل عيالهم مع تزايد كم الوظائف والخدمات التى تسند لشركات هندية وصينية جرياً وراء رخص الأسعار … ولكننى اجد أن إتساع نطاق العمل قد خلق فرصاً كثيرة لا نراها، و لكى نراها يجب أن ننظر لفرص العمل الجديدة التى خلقت بسبب هذا السوق المتسع … فالهند و الصين و أوروبا الشرقية ينافسون الغرب فى سوق العمل و لكنهم فى نفس الوقت يستوردون التكنولوجيا اللازمه منه، مما يعنى أنه يوجد سوق كبير فتح أبوابه حتى يستفيد و فى نفس الوقت يفيد…يعنى من دقنه و إفتل له.
والمناهج التعليمية يجب ان تتغير حتى نعلم ونربى اطفالنا على الإبتكار و الإبداع، بدلاً من الحفظ و الصم، لأن هذا هو ما سيضع أى دولة فى المقدمة فعلاً، و ليس عن طريق قياس مدى قدرة مواطنيها على تقديم دعم فنى بالتليفون أو أداء بعض المهام البنكية الروتينية وغيرها من الأمور التى يستطيع اى شخص، فى اى دولة، اداءها بمنتهى السهوله بعد ان سقطت حوائط جغرافية و سياسية كثيرة …
و فى نفس الوقت يجب ان نهتم بزيادة قدراتنا على التواصل الإنسانى المباشر والمهارة الشخصية، اللذان يعتبران عاملان حاسمان فى منع وظائف كثيرة من الهرب خارج الحدود، مثل مهنة الطبيب على سبيل المثال … الذى يجب ان يتمتع بحس مهنى وأسلوب إنسانى يجعل المريض (العميل) يأتى إليه هو شخصياً طلباً للراحة النفسية والخبرة المهنية، و لا يذهب لأى بالطو ابيض و السلام … أيضاً الممثل والموسيقى و المصمم فى أى مجال، كل هؤلاء عملهم غير روتينى بالمره و بالتالى المستقبل لهم تبعاً لكفاءتهم فى هذا المجال."
فريدمان لا يعيش فى دور الفيلسوف المفكر … بل بالعكس هو يرقب و ينظر و يحكى حكايات، بعضها مضحك، عن مواقف حدثت بينه و بين إبنته أو سكرتيرته أو أصدقائه، مواقف بسيطة لفتت نظره إلى جانب اخر من جوانب التغيير التى حدثت للعالم من حوله … هو يتساءل وينتقد و يحلل و يحَـيّر و يحتار، و يضع الإطار العام للحلول التى يجب ان يبدأ صناع القرار فى وضع الخطوات التنفيذية لها … وفى نفس الوقت يخاطب الشاب، فى أى دولة، الجالس امام الكمبيوتر والمنبهر بمدى إنفتاح العالم، و يحاول ان يرشده، بطريقة عملية، إلى أول طرق إستغلال هذا الكم المهول من الفرص المتاحة أمامه.
فريدمان ناقش أيضاً عيوب هذه الفلطحة، ومنها الضغط المتواصل و الرهيب على مصادر الطاقة على هذا الكوكب. فدخول مليار مواطن إلى عالم البيزنس والتكنولوجيا يتطلب مثلاً كهرباء أكثر حتى يلاقوا فيشة يشحنوا فيها موبايلاتهم الجديدة … وهو يعترف بأنه ليس من العدل ان نطالب الصين والهند بترشيد الطاقة، بينما أوروبا وامريكا، لما كانوا فى مرحلة النمو زيهم، كانوا بيبرطعوا فى إستنفاذ مصادر الطاقه و ماحدش بيوقفهم عند حدهم ..
هو يقر بأن المشكلة الحقيقية هى فى عدم توافر الطاقة اللازمة فى عقول القادة، والتى يحتاجونها حتى يتجهوا بأفكارهم وسياساتهم نحو افاق مختلفة تحترم هذه الفلطحة لكوكبنا.
المصدر: رصد