يا سيادة المستشار الرابض على منصة القضاء أفدني: ما قولك في رئيس يصدر قراراً، ثم عندما يتبين له خطأ قراره – على أسوأ الفروض – فيسارع في العدول عنه دون أن يصر عليه.. ألا يعد ذلك عند أصحاب العقول الراجحة قمة العقل والقوة والرجولة!
هذا رئيسنا يا رئيس نادي القضاة بشهادة المستشار عبدالمجيد محمود «منتهى التفهم واحترام القضاء»، وهذا رئيسنا يا زعماء الناصرية الأبطال «واضح جداً حيال حماية استقلال القضاء، واحترامه للقضاة والهيئات القضائية»، فماذا عن زعيمكم سفاح العصر وجلاد القرن.. هل نسيتم مذبحة القضاة والعدوان الهمجي على المستشار فرج السنهوري شيخ القضاة المصريين عبر التاريخ.. ألا تستحون؟!
هذا ما فعله رئيسنا.. رئيس مصر الحديثة مع المستشار عبدالمجيد محمود، فماذا فعل رئيسكم الزعيم «جمال عبدالناصر» مع القضاة والمستشارين؟ أهانهم وسجنهم وعذبهم، بل وقتلهم شر قتلة ألم يقتل القاضي الجليل عبدالقادر عودة على حبل المشنقة؟!
وأسوق هنا جانباً من شهادة المستشار الدكتور علي جريشة يرحمه الله تعالى فيما يتعلق بمشهد مماثل لموقف المستشار عبدالمجيد محمود، ولكنه شتان بين موقف الرجلين، فهذا نائب عام من صنع رئيس خلعه شعبه وطالب الشعب وكنتم في طليعة المطالبين بإقالته، ثم عندما تم تغييره برضا منه، فإذا بكم تنتهزونها فرصة لتقيموا مناحة عن استقلال القضاء.. أما الرجل الثاني، فهو مستشار تشهد له محاريب العدالة بالنقاء والنزاهة والعدل، ولكنه قال: «ربي الله..»، فاقتاده «عبدالناصر» إلى السجن الحربي، وأترك له المجال ليروي شهادته في مذكراته (تنشرها مجلة «المجتمع» الكويتية)، التي تركها للدنيا وسيرويها أمام محكمة القضاء الإلهي يوم القيامة، يقول يرحمه الله: «في السجن الحربي كانت معية الله تربط على القلوب المملوءة بالإيمان، وتخفف الآلام المبرحة عن الأجساد الطاهرة التي تهوي عليها السياط، فما تزيدها إلا إيماناًً وتسليماً، واستمر تعذيب أخيار الأمة على يد زبانية الصلف وذيول الطاغية في محنة 1965م؛ لتحدث المفاجأة والآية بعد عامين، وتدق مطارق القدرة الإلهية رؤوس الجلادين.
اشتد عذابي.. وأحاط بي الظالمون من كل جانب.. وبقايا الاحتمال تكاد تتزلزل من تحت أقدامي.. وبعد أن نبه عليَّ «حمزة البسيوني» قائد السجن الحربي.
قال لي: أكرم لك أن تستقيل.. فاهم؟!
وصمتُّ ولم أرد..
واستطعت أن أختلس كلمات مع «المرحوم» المستشار منير الدلة، الذي كان يقيم في الحجرة إلى جواري.. فنصحني أن أستقيل!
وصلت إلى مبنى مجلس قيادة الثورة.. ووجدت في انتظاري «فتح الله بركات» الأمين العام لمجلس الدولة..
ثم بدا على الأمين العام لمجلس الدولة التأثر.. وقال: الدكتور سعد الدين الشريف أرسلني إليك للحصول على استقالة منك؛ لأن مجلس الدولة في خطر!
وعجبت وقلت له: لماذا؟
قال: بسبب اعتقالك! ثم إن هناك حالات أخرى.. واستقالتك.. سوف تنقذ مستقبل مجلس الدولة!
وكان الرجل يبدو صادقاًً في كلامه.. وإن كنت قد عجبت كيف تنقذ استقالتي مستقبل مجلس الدولة!
وسألت الأمين العام لمجلس الدولة: ماذا أكتب في الاستقالة؟
فتحرج الرجل، فقلت متهكماً: «أصلي ما استقلتش قبل كده».. ثم قلت: أقول بمناسبة القضية رقم كذا؟
قال: لا نريد أن نعلقها على أسباب!
ثم كتبت: أرجو قبول استقالتي من منصبي بمجلس الدولة.. وأرختها 13 فبراير 1966م.. وخرجت إلى الحجرة المجاورة، وعدت من حيث حضرت.. وكانت الساعة تقترب من الثامنة مساءً.. وكنت أتعجل العودة، وكأني عائد إلى بيتي، انتابني شعور من السكينة عجيب، ودخلت السجن الحربي.. ونمت ليلتها نوماً عميقاً!
وتذكرت كلماتهم لنا أثناء التعذيب.. إن الأحكام موضوعة.. من قبل أن تشكل المحكمة.. وخرجنا نستمع إلى الأحكام.. وكان نصيبي الأشغال الشاقة 12 سنة، لم إذاً هذه المسرحيات؟
لابد منها للرأي العام.. الداخلي والخارجي!!
ولم أستبعد أن يسجل الرئيس تأشيرته الخالدة: «مع اعتقاله بعد انتهاء مدة الحكم»! فقد سمعت أنه أشر لبعضهم: «يعتقل مدى الحياة»، ولا أدري مدى حياة من؟! وقد قال لنا الطاغية الصغير (حمزة البسيوني)، حين جمعنا يوماً: «أنتم عارفين رأيي فيكم.. أنتم تستحقون الإبادة.. أنتم أخطر على البلد من اليهود.. لن تخرجوا هذه المرة من السجن الحربي!».
تلك قصة مهداة للناصريين.. لمن لا يستحون وهم يقولون بعد موقف الرئيس «مرسي» الكبير: «إنه يريد قضاة ملاكي، ولكن هيهات..».
حقاً إذا لم تستح فقل وافعل ما شئت، لكن لكل قول رد ولكل فعل نهاية!
————————————————————