ظروف كثيرة جعلت من ذكرى انطلاقة حركة المقاومة الإسلامية – حماس لهذا العام مختلفة، وأحداث كثيرة بين يدي هذه الإنطلاقة أعطت إشارات على عهد جديد تعيشه الحركة المقاومة أو تبدأ خطواتها الأولى فيه.
فبعد سنوات عجاف عاشتها الحركة، وحصار صعب قاسته المنطقة الجغرافية التي تحكمها (قطاع غزة)، وتشديد الخناق على الضفة الغربية على جميع الصعد، ومراوحة لحركة المقاومة الفلسطينية أمام الاعتداءات الصهيونية المتكررة، وربيع عربي شهد تراجعاً مؤقتاً لحضور القضية الفلسطينية على أجندته ثم توَّجَ نفسه بأحداث الثورة السورية التي فرَّقت قيادة حماس ووزعتها على عدة بلدان، ذهبت تحليلات كثيرة إلى التنبؤ بتراجع أداء الحركة ودورها الوطني وثقلها السياسي.
غير أنَّ معركة "حجارة السجيل" (عامود السحاب حسب التسمية الصهيونية) وما تلاها من أحداث قلبت الموازين وغيرت المعادلة. فقد حملت الأيام السبعة بلياليها الثمانية مفاجآت كثيرة للقريب والبعيد، مميطة اللثام عن إشارات مهمة تراوحت بين الماضي والمستقبل.
فشل صهيوني شامل (سياسياً – عسكرياً – أمنياً)
بعد أن كانت صاحبة المبادرة باغتيالها الجعبري، كان أول إخفاقات المؤسسة العسكرية وربما أهمها وأخطرها فشلها الاستخباراتي الذريع. فقد بدى واضحاً منذ الأيام الأولى للعدوان أنها تفتقد لمعلومات صحيحة ومحدَّثة تصوغ بنك أهداف تستطيع من خلاله الضغط على المقاومة وانتزاع استسلام (أو طلب هدنة) يحفظ ماء وجهها. لكن جلَّ ما قصفته الآلة العسكرية الصهيونية كانت أهدافاً قديمة ومناطق زراعية ومبان سكنية، فيما بدا واضحاً للعيان فشلها في تدمير، أو حتى الحد من، القدرة الصاروخية للمقاومة رغم أنها أعلنت عن ذلك. الأمر الذي انتهى بحكومة الاحتلال إلى أن تطلب هي التهدئة وتنزل على شروط المقاومة.
إنجازات المقاومة
المقاومة الفلسطينية من ناحيتها فاجأت الجميع بأدائها المتميز عسكرياً وأمنياً وإعلامياً، وكانت أولى البشائر الرد المتأني الذي أتى بعد اجتماع وتنسيق يبن الفصائل المختلفة، ثم الإمكانات والاستعدادات التي تبين أن المقاومة (وعلى رأسها كتائب القسام الذراع العسكري لحماس) تمتلكها. كان واضحاً أن كتائب القسام وغيرها من الأذرع العسكرية للفصائل قد قضت فترة ما بعد حرب الفرقان في الاستعداد والتدريب والتسلح في انتظار المواجهة القادمة. الأداء المتميز للمقاومة شمل إسقاط الطائرات، وسقوط الصواريخ بعيدة المدى لأول مرة على القدس وتل أبيب وغيرها من المدن، إضافة لجبهة داخلية متماسكة، واداء إعلامي متميز، وحرب نفسية محترفة، وثبات على المطالب في مفاوضات التهدئة غير المباشرة التي رعتها مصر.
مهرجان الانطلاقة
حرصت حركة حماس أن يكون مهرجان انطلاقتها هذا العام متميزاً جداً من جميع النواحي ليليق بحجم الإنجاز في الحرب. فمن الحشد العددي الكبير، إلى الفرق الفنية المشاركة، ومن الوفود العربية والإسلامية الضيفة، إلى كلمة كتائب القسام للمرة الأولى، كان المهرجان هذا العام احتفالياً ومختلفاً توَّجته الحركة بزيارة مشعل وإلقائه كلمة الحركة في المهرجان، بكل ما لتلك الخطوة من معنى ومغزى ورمزية وتحدٍّ ربما.
مشعل يقدّم خارطة الطريق
في كلمته أمام حشد قدر بما يقرب من نصف مليون مشارك، لخَّص خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس مبادئ وثوابت حركته في 18 نقطة محورية بشيء من الاختصار. فمن التأكيد على "كلِّ فلسطين" أرضاَ وشعباً، مروراً بخيار المقاومة، وتقديم التحرير على الدولة، والإصرار على المصالحة الوطنية، والقبول ببرنامج وطني يجمع عليه الجميع دون التفريط بالثوابت، وصل مشعل إلى الكلام بشكل واضح عن تحالفات حماس السياسية ونفي تبعيتها لأحد. لقد قدَّم مشعل نفسه قائداً وطنياً لا حمساوياً فقط، وعرض سريعاً لبرنامج وطني مفصل ومتميز يحمل مسؤولية الشعب وتحرير الأرض، الأمر الذي فهم منه البعض أنه يقدم حماس بديلاً لحركة فتح في قيادة الشعب الفلسطيني، ومشعل نفسه في مكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
الضفة تنتفض
وعلى خلاف ما حصل أيام حرب الفرقان في 2008-2009، كان تفاعل الضفة الغربية مع الأحداث قوياً ومؤثراً منذ البداية، وكان جلياً أن المشهد الضفاوي، لا سيما الحمساوي منه، قد تغير كثيراً منذ تلك الحرب. غير أنَّ المشهد الأقوى أظهرته الضفة في فعاليات انطلاقة حماس، حين أعلنت الحركة عن أسبوع كامل يجوب مدن الضفة شارك به عشرات الآلاف.
ولإن كان سماح السلطة بإقامة مهرجانات (أو مسيرات) الإنطلاقة عاملاً إيجابياً، إلا أنني أحسب أنه كان نتيجة لا سبباً لها. ففي ظني أن ثلاثة عوامل كانت ستسهم في تنظيم الفعاليات حتى ولو لم يسمح لها علناً: انتصار المقاومة السياسي في الحرب، التحركات الشعبية السابقة في الضفة، وارتفاع درجة الاحتقان بسبب الركود السياسي.
هذا التحرك الضفاوي له أهميته وخطورته في حسابات الأحتلال، لأن له ما بعده إن قدر له أن ينمو ويستمر. حيث تبقى الضفة الأقدر على مناجزة مشروعه بسسب القرب الجغرافي والتداخل الاستيراتيجي ومحدودية قدرة القطاع في ظل حصاره الحالي.
مخاوف واتهامات
يغمز الكثير من خصوم حماس وأعدائها من قناة موقفها من الثورة السورية، حيث أعلنت بشكل واضح لا لبس فيه أنها مع حق الشعب السوري في الحرية والديمقراطية. ولإن كانت علاقة حماس مع قطر وتركيا قديمة وسابقة على الثورة السورية، وعلاقتها مع مصر الثورة أمراً طبيعياً بحكم ظروف التاريخ والجغرافيا والتقارب الفكري، إلا أنه يحلو للكثيرين الحديث عن انتقال حماس من مربع المقاومة وانضمامها ل"محور" جديد يضم مصر وقطر وتركيا.
ولئن كان أداء الحركة في الحرب و تطرق مشعل في كلمته لهذه النقطة تحديداً لا يكفيان لإسكات المفتئتين عليه وعلى حركته، إلا أنَّ هناك تخوفاً ربما له ما يبرره لدى بعض أبناء ومناصري ومحبي الحركة. خوف أن تنجرف الحركة رويداً رويداً نحو هدنة أو عملية سياسية من أي نوع.
إذ لا يخشى عادةً على حركات المقاومة والتحرر الوطني في أوقات الضعف والاستهداف، بل يخشى عليها لدى ظهور قوتها وإثبات أنها عصية على الهزيمة المباشرة في الميدان، الأمر الذي يغلِّب استعمال "الجزرة" على "العصى" في التعامل معها ولو لحين.
خاتمة
خلاصة الأمر أن حماس قد شبَّت عن الطوق وأثبتت أنها كانت تقضي السنوات المنقضية في الإعداد لمواجهة المحتل، وأن قدرتها العسكرية أكبر بكثير مما يظن، ورغم ذلك تبدي تواضعاً محموداً في الموضوع الداخلي وإصراراً مشهوداً له على المصالحة الوطنية، وثباتاً على مبادئها وثوابتها، في حين تستمر في نسج علاقات عربية وإقليمية ودولية، فارضة نفسها لاعباً أساسياً في الداخل والخارج.
ولن يمضي وقت طويل قبل أن تصبح حماس قائدة للمشروع الوطني الفلسطيني أو شريكة حقيقية في قيادته على الأقل. وهذا يتطلب منها مراجعات شاملة وحقيقية (كان لها إشارات في كلمة قائدها مشعل) في ملفات متعددة، على صعيدها الداخلي والعلاقات مع الفصائل والبرنامج السياسي.
وربما لذلك نجد أنفسنا مضطرين – بدافع الحرص على المشروع – أن نذكر بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم"