انتهينا من رحلتنا الصحفية داخل مصلحة الطب الشرعي، متخطين حواجز الخوف من الصحفيين لدى اغلب العاملين هناك مما صعّب مهمتنا أكثر و لكن ما إن خرجنا من المصلحة حتى دعوت زميلتي لتري لأول مرة في حياتها مشرحة زينهم التي تبعد عن المصلحة قرابة شارعين فقط و نحن في الطريق إليها قابلتنا النساء المتشحات بالسواد في انتظار خروج جثث ذويهم و أكوام القمامة من أمامنا ومن خلفنا و محل حانوت عن يسارنا و عبارات الغضب و الرثاء التي غطت جدران الشارع و سيارات المصلحة التي اكتست بعبارات غاضبة تبحث عن العدل.
كما لم يخلو الطريق من ذلك الرجل البدين الذي يمشي أمامنا بخطى الواثق يرتدي "تيشرت" أخضر عليه علامة المشرحة و بنطال أسود و"بوت ابيض"، فأثارت علامة المشرحة على ثيابه الحاسة الصحفية لدينا فقررنا تعقبه لعللنا نكتشف من خلاله عالم جديد .
انتظرناه حتى دخل من بوابة المشرحة و جلس على رصيفها مع أصدقاؤه فذهبنا إليه و الخوف يعتصرنا فهو من بعيد لم يكن بالشكل المألوف لنا حتى نتحدث معه و لكن عندما اقتربنا وجدنا شخصا هادئا يحمل صفات متناقضة فهو الطيب صعب المراس الذي ما إن عرف إننا صحفيات و نريده أن يتحدث لنا عن عمله في المشرحة حتى أشاح بوجهه بعيدا عنا فكررنا طلبنا فقال انه لا يتحدث إلى الصحفيين لأنه لا يثق بهم مطلقا .
فسألناه عن السبب فقال إن بعض الجرائد و المواقع الزميلة نقلت على لسان زملائه ما لم يقولوه و بالتالي اضروا بهم و بالمصلحة و أنهم يدعون الكذب على المصلحة و يستغلون العاملين هنا لمصالحهم .
الخوف و الموت وجهان لعملة واحدة
فاحترمنا خوف الرجل و حاولنا استمالته و إقناعه بأننا لا نريده أن يتحدث عن المشرحة بل نريده يتحدث عن تأثر حياته الشخصية بالعمل داخل المشرحة و لكنه أصر على موقفه الرافض وبعد العديد من المحاولات و إقناعه بشتى الطرق إننا لا نريد إلا الخير قرر الشيخ سعيد مغسل المشرحة -الذي عرفنا أسمه فيما بعد- أن يتحدث إلينا .
ولكنه لم يحاول إخفاء الخوف البادي عليه و النظر إلينا بتوجس من حين لأخر و تحفظه الشديد في الإجابة على تساؤلاتنا فيقول الشيخ سعيد:أعمل هنا منذ ثمانية عشر عامًا في تغسيل وتكفين الموتى والشغلانه دي تعلم تقوي الله وأهم شيء فيها الأمانة فاحرص على أمانة الموتى وعدم ذكر أحوالهم فقد يأتي لنا "المقطع" و"السليم" ونقوم بتجميع أجزاءها وأعدادها للدفن.
و عندما سألناه عن أكثر موقف أثر في حياته خلال عمله بالمشرحة يقول بتحفظ كعادته طيلة جلستنا معه : " الشهيد المبتسم" مجهول الهوية الذي جاءه أيام الثورة خلاني بكيت للبكاء وكمان ضحايا أحداث بورسعيد الشباب الصغير إلى صور كانت تألم ويضيف "المشرحة ديه ياما شالت ناس أبطال"
و ابدي الشيخ رضاه عن كل شيء في حياته فعندما نسأله رأيه في أحوال البلد يقول "ربنا يصلح حال البلد و تهدى " و عندما نسأله عن حياته المادية يجاوب بالحمد لله وكل أمنياته أن يرزقه الله بحج البيت الحرام كما وعدته إحدى الجرائد الزميلة.
و في نهاية رحلتنا لم نقتنع بإجابات الشيخ سعيد على تساؤلاتنا فكان يشوبها الخوف من أن يتقّول عليه أحد و التحفظ الشديد و لكن برغم رفضه للحديث معنا و إقناعه بشق الأنفس إلا إننا سعدنا كثيرا بدعائه لنا بالتوفيق فهي أجمل الدعوات حين تخرج من أفواه البسطاء .
نساء متشحات بالسواد في انتظار جثث ذويهم أمام المشرحة
جانب من أمام باب المشرحة حيث الإهمال
مدخل مشرحة زينهم
بعض العبارات الغاضبة على جدران مدخل المشرحة
سيارة تابعة لمصلحة الطب الشرعي أمام المشرحة مكتوب عليها " فين العدل يا وزارة